الوجود الروسي في البحر الأحمر وخليج عدن (1970–2025)

د. جمال عبد الرحمن رستم، أكاديمي وخبير أمني وعسكري (السودان)
مقدمة
يشكل البحر الأحمر وخليج عدن أحد أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في العالم، لما لهما من صلة مباشرة بقناة السويس ومضيق باب المندب، ولارتباطهما بخطوط التجارة والطاقة الدولية. وقد أولت روسيا (والاتحاد السوفيتي سابقًا) أهمية كبرى لهذه المنطقة، وسعت إلى توسيع نفوذها فيها عبر أدوات مختلفة، شملت القواعد العسكرية، التحالفات الإقليمية، ومشاريع أمنية واقتصادية، تعكس طموحات موسكو في تأمين مصالحها الجيوسياسية. يرصد هذا البحث تطور الوجود الروسي في البحر الأحمر وخليج عدن منذ عام 1970 وحتى عام 2025، في سياق تحولات السياسة الدولية والإقليمية.
أولًا: الخلفية التاريخية – السبعينيات وحتى نهاية الحرب الباردة
شهدت فترة السبعينيات تصاعدًا ملحوظًا في التنافس الجيوسياسي بين المعسكرين الشرقي والغربي، حيث نظر الاتحاد السوفيتي إلى منطقة البحر الأحمر وخليج عدن باعتبارها ساحة استراتيجية حيوية ضمن صراعه العالمي مع النفوذ الأمريكي والبريطاني. وقد أولت موسكو أهمية خاصة لهذه المنطقة نظرًا لقربها من الممرات البحرية الدولية، خاصة مضيق باب المندب وقناة السويس، ما جعلها تطمح إلى تعزيز وجودها فيها بوسائل متعددة.
بدأ الاتحاد السوفيتي انخراطه المباشر في القرن الإفريقي من خلال الصومال، التي وقّعت معه عام 1974 معاهدة صداقة وتعاون لعشرين عامًا. مكّن هذا الاتفاق موسكو من استخدام ميناء بربرة كمركز لوجستي للأسطول السوفيتي في المحيط الهندي، بالإضافة إلى تحويل الجيش الصومالي إلى أحد أكثر الجيوش تسليحًا في إفريقيا، عبر برامج تدريب وتسليح ضخمة.
لكن هذا التحالف لم يستمر طويلًا، فمع صعود نظام ماركسي جديد في إثيوبيا بقيادة منغستو هايلي مريام في أعقاب ثورة 1974، قررت موسكو تغيير تحالفها الاستراتيجي والانتقال لدعم أديس أبابا، معتبرة أن إثيوبيا، بما تمتلكه من وزن ديمغرافي وجغرافي، تمثل شريكًا أكثر ثباتًا. هذا التحول تجسّد خلال حرب الأوغادين (1977–1978)، حيث دعمت موسكو إثيوبيا عسكريًا بشكل غير مسبوق، وشاركت إلى جانبها قوات كوبـية، مما أدى إلى هزيمة الصومال وانسحابها من التحالف مع الكتلة السوفيتية.
في الجانب البحري، سعت موسكو إلى تأسيس شبكة دعم لوجستي عسكرية في موانئ مطلة على البحر الأحمر، لاستخدامها في خدمة عمليات الأسطول السوفيتي الخامس، الذي كان يعمل في المحيط الهندي. من بين أبرز هذه المواقع:
ميناء عَصَب: كان تابعًا لإثيوبيا آنذاك (قبل استقلال إريتريا عام 1993)، وشكل مركزًا مهمًا لإعادة التزود والإمداد.
ميناء بربرة: قبل انهيار التحالف مع مقديشو.
ميناء عدن، في جنوب اليمن: أقامت موسكو علاقات وثيقة مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، مما وفر لها منفذًا دائمًا نحو خليج عدن.
كان الهدف الأوسع من هذه القواعد البحرية هو ضمان القدرة على الانتشار البحري السريع، ومراقبة خطوط الملاحة الدولية، ومواجهة أي وجود أمريكي أو بريطاني موازٍ في المنطقة. كما سعت موسكو إلى توظيف هذه الموانئ في توفير الدعم اللوجستي لسفنها التي تجوب المحيط الهندي، دون الحاجة إلى العودة إلى قواعد بعيدة في الاتحاد السوفيتي أو الاعتماد على دول محايدة.
إضافة إلى ذلك، كثّفت موسكو من دعمها للحركات الثورية والأنظمة الاشتراكية في إفريقيا والمنطقة العربية، مثل جبهة تحرير إريتريا، والنظام الماركسي في اليمن الجنوبي، مستهدفة بناء عمق سياسي يُمكّنها من التأثير طويل الأمد. كما وظّفت الاتحاد السوفيتي أدوات دبلوماسية وثقافية متعددة، بما في ذلك المنح الدراسية، وتدريب الكوادر الأمنية والعسكرية من دول المنطقة في موسكو.
تميزت هذه المرحلة بمحاولة شاملة من قبل الاتحاد السوفيتي لـتحقيق اختراق جيوسياسي في منطقة تقليدية النفوذ الغربي، مستخدمًا في ذلك تحالفات عسكرية، قواعد بحرية، ودعمًا أيديولوجيًا مكثفًا، بما يخدم هدفًا استراتيجيًا أوسع يتمثل في التحكم بمفاتيح الملاحة الدولية، وضمان نفوذ دائم في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم.
ثانيًا: فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي (1991–2000)
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، دخلت روسيا مرحلة من الفوضى السياسية والانكماش الاقتصادي، أثّرت بشكل مباشر على قدرتها على ممارسة النفوذ في الخارج. فقد أُعيد تشكيل الدولة الروسية داخليًا وسط صراعات بين القوى السياسية، وأزمات اقتصادية حادة مثل تضخم الأسعار، وانخفاض الإنفاق العسكري، وتفكك الجهاز البيروقراطي الذي كان يدير السياسة الخارجية السوفيتية بنهج مركزي ومنضبط.
في هذه الفترة، تقلّص الوجود الروسي في البحر الأحمر وخليج عدن بشكل شبه كامل، حيث أُغلقت معظم القواعد البحرية التي كانت موسكو تستخدمها سابقًا في الصومال واليمن الجنوبي، كما تم إيقاف أي عمليات بحرية كانت تجوب هذه المياه الحيوية. وقد أدى هذا الانسحاب المفاجئ إلى فراغ استراتيجي استغلته القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لتعزيز وجودها العسكري والبحري في المنطقة، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية (1991) التي أعادت ترسيم النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.
اقتصرت السياسة الخارجية الروسية خلال التسعينيات على الحفاظ على علاقات دبلوماسية سطحية مع بعض الدول الإفريقية والعربية، لكنها لم تكن مدعومة بأي أدوات اقتصادية أو عسكرية فاعلة. كما أن موسكو فقدت الكثير من حلفائها السابقين، مثل إثيوبيا واليمن الجنوبي، نتيجة تغير الأنظمة السياسية فيها، وتحولها نحو سياسات أكثر انفتاحًا على الغرب.
على مستوى المنظمات الدولية، انخفض النشاط الروسي في قضايا القرن الإفريقي، إذ لم تعد موسكو لاعبًا مركزيًا في ملفات الأمن البحري، أو النزاعات الإقليمية، كما كانت عليه الحال في زمن الحرب الباردة. اكتفى الدبلوماسيون الروس بالمشاركة الرمزية في بعض جلسات مجلس الأمن المتعلقة بالقرن الإفريقي، دون مبادرات فاعلة.
علاوة على ذلك، لم تملك روسيا خلال هذه المرحلة أي قدرة بحرية فعلية على الانتشار خارج حدودها المباشرة، نظرًا لتقادم أسطولها البحري، ونقص التمويل، وضعف البنية التحتية اللوجستية في الخارج. ونتيجة لذلك، تم تعليق أي مشاريع محتملة لبناء قواعد بحرية أو اتفاقات عسكرية في البحر الأحمر.
إجمالاً، يمكن توصيف هذه المرحلة بأنها فترة انكفاء استراتيجي روسي، ركزت خلالها موسكو على استعادة تماسكها الداخلي، ومعالجة أزماتها الاقتصادية العميقة، دون أن تملك الإرادة أو الموارد للعودة إلى مسرح البحر الأحمر وخليج عدن. وقد استمر هذا التراجع حتى مطلع الألفية الجديدة، حين بدأت روسيا في استعادة بعض أدواتها الدولية تدريجيًا.
ثالثًا: عودة الاهتمام وبداية الألفية الجديدة (2000–2010)
مع بداية الألفية الجديدة، وتحديدًا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، بدأت روسيا بالخروج من حالة الانكفاء التي طبعت التسعينيات، عبر إعادة صياغة سياستها الخارجية بما يعكس تطلعاتها للعودة كقوة عظمى على الساحة الدولية. استفادت موسكو في هذه المرحلة من تحسن أسعار النفط والغاز عالميًا، مما أدى إلى انتعاش اقتصادي نسبي، مكّنها من إعادة بناء قوتها العسكرية، وخاصة البحرية، واستعادة أدوات التأثير الدولي تدريجيًا.
في هذا السياق، عاد البحر الأحمر وخليج عدن إلى دائرة الاهتمام الاستراتيجي الروسي، بوصفهما محورين رئيسيين في الأمن البحري العالمي، وعقدة وصل بين أوروبا وآسيا وإفريقيا. وقد ازداد هذا الاهتمام بفعل عدد من العوامل الدولية، أبرزها:
تصاعد التهديدات الأمنية في الممرات البحرية الدولية، لا سيما نشاط القرصنة في سواحل الصومال منذ عام 2005.
احتدام التنافس الدولي على النفوذ في القرن الإفريقي، خاصة من جانب الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين.
عودة الاهتمام الغربي بالمنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، مما دفع روسيا إلى محاولة موازنة هذا النفوذ بإعادة التموضع.
في هذا السياق، شرعت موسكو في إعادة إحياء علاقاتها مع بعض الدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر، وعلى رأسها السودان، الذي شهد في تلك الفترة تحسنًا ملحوظًا في علاقاته مع روسيا، خاصة في المجال العسكري. وظهرت مؤشرات متزايدة على رغبة موسكو في استعادة مواقعها البحرية القديمة، من خلال مشاريع مبكرة لإعادة تأهيل موانئ أو توقيع اتفاقيات تعاون لوجستي.
من ناحية العمليات العسكرية، شكّل عام 2008 محطة فارقة، إذ بدأت روسيا المشاركة الفعلية في بعثات مكافحة القرصنة في خليج عدن، بعد أن تصاعدت هجمات القراصنة على السفن التجارية، وخاصة ناقلات النفط. أرسلت موسكو سفنًا حربية إلى المنطقة ضمن تنسيق مع القوى الدولية وتحت إشراف الأمم المتحدة، وشاركت في حماية السفن الروسية والدولية على حد سواء.
وقد استفادت روسيا من هذه المشاركة في تقديم نفسها كـ فاعل مسؤول في النظام الأمني الدولي، وسعت إلى توظيف هذه البعثات كمدخل لإعادة بناء نفوذها البحري، واستكشاف إمكانية التمركز الدائم في المنطقة من خلال اتفاقيات مستقبلية.
وعلى الرغم من أن هذه الفترة لم تشهد بعد إقامة قواعد روسية دائمة في البحر الأحمر أو خليج عدن، فإنها مثّلت مرحلة تمهيدية مهمة على طريق العودة الروسية إلى المنطقة. فقد ركزت موسكو خلالها على تعزيز الحضور الرمزي، وبناء الشراكات، واستعادة الثقة مع شركائها الإقليميين.
تميزت هذه المرحلة بسياسة “الاختراق الناعم” التي انتهجتها موسكو، والتي اعتمدت على أدوات الأمن البحري، والدبلوماسية العسكرية، والتعاون التقني، لتأمين موطئ قدم استراتيجي يمكّنها من استئناف مشروع النفوذ الروسي في المنطقة، تمهيدًا لمرحلة أكثر وضوحًا في العقد التالي.
رابعًا: التحركات الروسية الحديثة (2010–2025)
1. القواعد العسكرية والوجود البحري
منذ عام 2009، شرعت روسيا في اتباع استراتيجية أكثر جرأة لإعادة تموضعها العسكري في البحر الأحمر وخليج عدن، متبنية سياسة إنشاء قواعد بحرية دائمة لضمان حضورها المستمر وتأمين مصالحها الاستراتيجية. يأتي هذا التوجه ضمن عقيدة البحرية الروسية المحدثة، التي تركز على توسيع الانتشار العالمي للأسطول الروسي، خاصة في المحيطات الهندي والأطلسي، واستعادة النفوذ في المناطق التي كانت موسكو تتمتع فيها بتواجد قوي خلال الحرب الباردة.
في اليمن، أبدت روسيا اهتمامًا متزايدًا بإمكانية إقامة نقاط دعم لوجستي في جزيرة سقطرى أو ميناء الحديدة، مستفيدة من علاقاتها مع مختلف الأطراف في النزاع اليمني. ومع ذلك، أعاقت الحرب الأهلية الدائرة منذ عام 2015، وتدخل القوى الإقليمية مثل السعودية والإمارات، من تحقيق تقدم ملموس في هذه المشاريع، مما جعلها تبقى في طور المفاوضات غير الرسمية.
أما في السودان، فقد تمثل التقدم الأبرز في اتفاقية إنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان، التي وقعها الرئيس بوتين مرسومًا بشأنها عام 2020، وأعيد تفعيلها في فبراير 2025 بعد سنوات من التأجيل. يتيح الاتفاق لروسيا نشر حتى 300 عسكري وأربع سفن (بما في ذلك نووية) لمدة 25 عامًا، مقابل تقديم دعم اقتصادي وعسكري للخرطوم. يُعتبر هذا الموقع الاستراتيجي بوابة لروسيا نحو إفريقيا والمحيط الهندي، لكنه يواجه عقبات مثل الصراع الداخلي السوداني والضغوط الدولية.
في إريتريا، وقعت موسكو مذكرة تفاهم عام 2023 لاستخدام ميناء مصوع كمركز لوجستي، مما يعزز من خياراتها في المنطقة. كما تدرس روسيا إمكانيات في أرض الصومال (بربرة)، لكن التحديات السياسية تحول دون تنفيذ فوري.
2. التحالفات الإقليمية والعلاقات الجديدة
عززت روسيا علاقاتها مع دول المنطقة من خلال تحالفات متعددة، مثل الشراكة مع السودان في المجالات العسكرية والطاقة، ومع إريتريا للدعم اللوجستي. في اليمن، حافظت موسكو على توازن بين الحوثيين والمجلس الرئاسي، مستخدمة نهج “النفوذ المتعدد المسارات” لضمان مصالحها. تراقب دول الخليج هذا التقارب بحذر، خاصة مع إمكانية تقديم روسيا معدات عسكرية للحوثيين مقابل مرور آمن لسفنها.
3. الوجود العسكري والاقتصادي
منذ عام 2011، زادت روسيا من مشاركتها في عمليات مكافحة القرصنة، وأصبحت المنطقة شريانًا حيويًا لتصدير النفط بعد عقوبات 2014 و2022. كما أبرمت اتفاقيات تجارية مع دول مثل السودان لاستكشاف الذهب والطاقة.
4. الشركات والأنشطة غير النظامية
اعتمدت روسيا على “النفوذ الرمادي” عبر مجموعة فاغنر (الآن Africa Corps)، لتوفير حماية وتدريب في دول مثل السودان واليمن، مما يعزز نفوذها دون التزام رسمي كبير.
خامسًا: القواعد القائمة ومشاريع التوسع (حتى عام 2025)
تمثل قاعدة بورتسودان الإنجاز الرئيسي، لكن مشاريع أخرى مثل ميناء مصوع (إريتريا)، سقطرى والحديدة (اليمن)، وبربرة (أرض الصومال) لا تزال في طور المفاوضات بسبب الضغوط الغربية والإقليمية وعدم الاستقرار. تهدف روسيا إلى بناء شبكة دعم لوجستي متعددة لتعزيز مرونتها البحرية، مع التركيز على موازنة النفوذ الصيني والأمريكي.
سادسًا: الأهداف الاستراتيجية لروسيا في المنطقة
تشمل الأهداف ضمان الوصول إلى الممرات البحرية، موازنة النفوذ الغربي والصيني، تأمين صادرات الطاقة خاصة بعد عقوبات 2022، وتعزيز النفوذ الجيوسياسي عبر الدبلوماسية والتعاون الإقليمي. جعلت الأزمة الأوكرانية البحر الأحمر وخليج عدن شريانًا رئيسيًا لتدفق صادرات النفط والغاز الروسي نحو آسيا وأفريقيا. كما أن الأزمة دفعت الشركات الروسية للبحث عن قنوات مالية وتجارية غير تقليدية مع شركاء أفارقة وآسيويين، وجعلت حماية طرق الملاحة والموانئ أولوية أمنية واقتصادية من الطراز الأول لتعويض تراجع التعامل الأوروبي.
هذه الأهداف المتشابكة تُظهر كيف ترى روسيا المنطقة ليست فقط كممر بحري حيوي، بل كساحة استراتيجية متكاملة تجمع بين المصالح العسكرية، الاقتصادية، والدبلوماسية، وتشكل أحد أهم محاور سياستها الخارجية في العقود الأخيرة.
سابعًا: أثر التوترات الإقليمية على الوجود الروسي
شهدت منطقة البحر الأحمر وخليج عدن خلال العقود الأخيرة موجات متكررة من التوترات الإقليمية التي كان لها تأثير مباشر وعميق على استراتيجية روسيا في المنطقة. من أبرز هذه التوترات كانت الحرب المستمرة في اليمن، التي بدأت عام 2015 وما زالت تؤثر على الاستقرار الأمني في المضيق الحيوي وبقية المناطق المحيطة. إلى جانب ذلك، شهدت المنطقة سلسلة من الهجمات على السفن التجارية والعسكرية، سواء من قبل جماعات مسلحة محلية أو قراصنة، مما زاد من حدة المخاوف الأمنية لدى القوى الدولية.
استغلت روسيا هذه الأوضاع المتوترة بشكل ذكي، حيث قدّم لها تصاعد النزاعات مبررًا عمليًا وشرعيًا لتكثيف وجودها العسكري والبحري. تحت ذريعة حماية مصالحها التجارية وحماية السفن الروسية وناقلات النفط من المخاطر المتزايدة، بادرت موسكو إلى تعزيز انتشارها في مياه البحر الأحمر وخليج عدن عبر إرسال سفن حربية وتوقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع بعض الدول الساحلية.
كما أوجدت هذه التوترات فراغًا استراتيجيًا ملحوظًا، خاصة مع تراجع الدور الغربي نتيجة انشغالات دول مثل الولايات المتحدة وأوروبا بقضايا أخرى أو ترددها في التورط بشكل مباشر في بعض النزاعات الإقليمية. في هذا السياق، أظهرت بعض الدول المطلة على البحر الأحمر، مثل السودان وإريتريا، انفتاحًا متزايدًا على التعاون مع روسيا، مستفيدة من الرغبة الروسية في تقديم الدعم العسكري والاقتصادي، ومن الفرصة لتعزيز مكانتها السياسية من خلال شراكات جديدة بعيدًا عن الضغوط الغربية التقليدية.
يُعد هذا التوجه الروسي جزءًا من استراتيجية أوسع لبناء تحالفات جديدة وتقوية النفوذ في منطقة جغرافية تعد نقطة التقاء لعدد من الصراعات والنزاعات الجيوسياسية، ما يجعل الوجود الروسي أكثر أهمية وتأثيرًا في مستقبل التوازنات الإقليمية والدولية في القرن الإفريقي ومنطقة الشرق الأوسط.
ساعد انشغال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بقضايا داخلية وملفات أخرى (شرق أوروبا، البحر الأسود، جنوب شرق آسيا) على إتاحة فرص أمام روسيا لممارسة تأثير غير رسمي عبر شركات أمنية مثل “فاغنر” وشركات الطاقة، مستفيدة من الفجوة الأمنية في بعض دول المنطقة ومرونة الحكومات الأفريقية واليمنية في الدخول بشراكات أقل تكلفة سياسية أو دولية.
ثامنًا: تقييم الاتفاق الروسي السوداني في بورتسودان
يُعتبر اتفاق إنشاء القاعدة البحرية الروسية في بورتسودان عام 2020، والذي تم توقيعه رسميًا وإتمام تفاصيله بحلول فبراير 2025، حدثًا محوريًا في مسار السياسة الروسية في البحر الأحمر وخليج عدن. فقد شكّل هذا الاتفاق نقطة تحول استراتيجية بارزة، ليس فقط من حيث طبيعة الوجود العسكري الروسي، بل أيضًا من حيث تداعياته الإقليمية والدولية.
أولًا، وفرت القاعدة لروسيا موقعًا دائمًا ومهمًا للأسطول الروسي على الساحل الشرقي لأفريقيا، على مقربة شديدة من مضيق باب المندب، الذي يعد من أهم الممرات المائية الحيوية في العالم، حيث يمر من خلاله جزء كبير من التجارة العالمية وشحنات النفط. هذا الموقع منح روسيا قدرة أكبر على مراقبة التحركات البحرية، والتدخل السريع في أي تهديدات محتملة لمصالحها، فضلاً عن ضمان أمن خطوط الملاحة البحرية التي تعتمد عليها بشدة في تصدير موارد الطاقة.
ثانيًا، شكلت القاعدة ورقة ضغط جيوسياسية جديدة في يد موسكو، خاصة في مواجهة القوى الغربية التي ترى في البحر الأحمر نقطة استراتيجية حساسة. فالوجود الروسي الدائم في هذه المنطقة يعزز من قوة روسيا التفاوضية في الساحة الدولية، ويسمح لها بدعم عملياتها في أفريقيا وآسيا بشكل أكثر فعالية. كما أن القاعدة تؤمن بُعدًا عسكريًا عمليًا يساعد في تقوية نفوذ روسيا ضمن منافسة النفوذ العالمية.
ثالثًا، أسهم الاتفاق في تعزيز ثقة الدول الساحلية في روسيا كشريك استراتيجي موثوق بعيد المدى، خصوصًا في ظل التوترات والتقلبات التي تشهدها المنطقة. فقد رأت دول مثل السودان، وإريتريا، وربما دول أخرى في المستقبل، إمكانية الاستفادة من الدعم العسكري والاقتصادي الروسي، ما يجعل روسيا خيارًا متاحًا وواعدًا بديلًا عن القوى التقليدية التي قد تكون مترددة أو مقيدة في تقديم دعم مماثل.
شكل إتمام الاتفاق في فبراير 2025 تتويجًا لعملية مساومة داخلية معقدة بين قوى السلطة السودانية، التي طالبت بضمان تحييد روسيا جزئيًا في النزاعات السودانية الإثيوبية وضمان استمرارية دعم عسكري واقتصادي حقيقي، وهو ما تحقّق جزئيًا في صيغ الاتفاق النهائية التي راعت ثقل المصالح الوطنية السودانية وأمن النظام الحاكم.
بالتالي، يمكن القول إن اتفاق بورتسودان لم يكن مجرد اتفاقية عسكرية عابرة، بل هو رأس حربة روسي في تعزيز حضور موسكو الجيوستراتيجي في البحر الأحمر، ويعكس تحولًا في التوجه الروسي نحو تكريس نفوذ دائم يتجاوز مجرد التواجد المؤقت أو الدعم اللوجستي. يواجه الاتفاق تحديات كبيرة في التنفيذ، فقد أصدرت الولايات المتحدة تحذيرات في أبريل 2025 بـ”عواقب خطيرة” لأي دولة تدعم الخطط الروسية، مما يزيد من الضغوط الدولية ، ويبقى الاتفاق معلقًا بسبب الصراعات الإقليمية.
تاسعًا: مواقف روسيا من القواعد البحرية في خليج عدن
منذ عام 2010، اتبعت روسيا استراتيجية متأنية ومنهجية تُعرف بـ”التقدم التدريجي” في سعيها لبناء وتعزيز قواعد بحرية دائمة في منطقة خليج عدن والبحر الأحمر. بدأت هذه الاستراتيجية بإرسال سفن حربية ضمن مهام دولية متعددة، أبرزها المشاركة في جهود مكافحة القرصنة التي كانت تهدد الملاحة البحرية في مضيق باب المندب وخليج عدن. هذه الخطوة الأولى سمحت لموسكو بتثبيت وجود عسكري عملي ومراقبة الوضع الأمني، كما مكّنتها من بناء علاقات ثقة مع الدول الساحلية المعنية.
بعد ذلك، دخلت روسيا في سلسلة من المفاوضات سواء العلنية أو السرية مع عدة دول في المنطقة، بهدف تأسيس قواعد بحرية على الأراضي أو في موانئ استراتيجية. شملت هذه المحادثات دولًا مثل اليمن، إريتريا، والصومال، حيث أبدت موسكو اهتمامًا واضحًا بالتوسع في نفوذها البحري. لكنها واجهت تحديات سياسية وأمنية معقدة، من بينها عدم الاستقرار الداخلي في اليمن، والحساسيات الجيوسياسية في إريتريا، مما أدى إلى تجميد بعض المشاريع وعدم التوصل إلى اتفاقيات نهائية.
لذلك، تتسم سياسات روسيا بالمرونة والحذر في سعيها لتأسيس وجود بحري دائم في خليج عدن، مع مراعاة التحديات الأمنية والسياسية المعقدة في المنطقة، مما يكشف عن فهمها العميق للديناميكيات الإقليمية المتغيرة. وفي إطار استراتيجية “التقدم التدريجي”، شهدت الفترة بين مارس وأغسطس 2025 تصاعدًا في التنافس الجيوسياسي حول خليج عدن. تواصل روسيا استكشاف الفرص في إريتريا واليمن، لكن التوترات المستمرة في اليمن، لا سيما هجمات الحوثيين على السفن، دفعتها إلى تقديم دعم غير مباشر للحوثيين لضمان مرور آمن لسفنها، بالتعاون مع الصين.
وفي أغسطس 2025، أشارت تقارير إلى احتمال تقديم روسيا والصين معدات عسكرية للحوثيين، مما يعزز نفوذهما الإقليمي ويحد من فعالية الجهود الغربية للردع .هذه التطورات تبرز قدرة روسيا على التكيف مع التحديات الأمنية، رغم المخاطر الناجمة عن التصعيد الإقليمي والضغوط الدولية.
خاتمة
تطورت السياسة الروسية في البحر الأحمر وخليج عدن من التحالفات العسكرية السلطوية في زمن الاتحاد السوفيتي، إلى انكفاء مؤقت، ثم إلى عودة تدريجية عبر مكافحة القرصنة، وصولًا إلى محاولة بناء قواعد بحرية دائمة تؤمن مصالح موسكو في مواجهة التغيرات الدولية.
يظل الوجود الروسي في المنطقة تحت الضغط بسبب الصراعات الداخلية في السودان والتصعيد في اليمن، مما يؤخر مشاريع التوسع. ومع ذلك، تعزز روسيا نفوذها من خلال شراكات غير رسمية، مثل دعم الحوثيين، وسط تنافس متزايد مع الولايات المتحدة والصين.
المراجع
– Berryman, J. (2000). Russia and the Red Sea: Regional Interests and Geopolitical Strategy. *Journal of Strategic Studies*, 23(4), 42–64. https://doi.org/10.1080/01402390008437868
– Shubin, V. (2008). *The Hot ‘Cold War’: The USSR in Southern Africa*. London: Pluto Press.
– Cohen, A. (2019). *Russia’s Return to the Middle East and Africa: Implications for the United States*. The Heritage Foundation. Retrieved from https://www.heritage.org
– International Crisis Group. (2020). *The Horn of Africa and Red Sea: The Growing Strategic Relevance*. https://www.crisisgroup.org
– United Nations Security Council. (2010–2023). *Reports on Piracy off the Coast of Somalia*. https://www.un.org/securitycouncil
– Stratfor. (2021). *Russia’s Naval Ambitions in the Red Sea: Sudan and Beyond*. Stratfor Worldview. https://worldview.stratfor.com
– Ministry of Foreign Affairs of the Russian Federation. (2023). *Statement on Bilateral Relations with Eritrea and Sudan*. http://www.mid.ru
– BBC Arabic. (2023, March). روسيا توقع مذكرة تفاهم مع إريتريا بشأن ميناء مصوع. https://www.bbc.com/arabic
– Al Jazeera Center for Studies. (2021). روسيا والبحر الأحمر: المصالح المتشابكة والتنافس الدولي. https://studies.aljazeera.net
– TASS Russian News Agency. (2024). *Russia-Sudan Naval Base Agreement Confirmed by Sudanese Authorities*. https://tass.com
– RT Arabic. (2025, February). تفاصيل الاتفاق النهائي لإنشاء قاعدة روسية في بورتسودان. https://arabic.rt.com
– RIA Novosti. (2022). الوجود العسكري الروسي في إفريقيا والقرن الإفريقي. https://ria.ru
– Khartoum Post. (2025). *Sudan-Russia Naval Deal Ratified Amid Regional Tensions*. (محلي، مصدر صحفي سوداني موثوق)
– Jamestown Foundation. (2025, May). Drone Attacks on Port Sudan Jeopardize Plan for Russian Red Sea Naval Base. https://jamestown.org/program/drone-attacks-on-port-sudan-jeopardize-plan-for-russian-red-sea-naval-base/
– Kyiv Independent. (2025, April). US warns ‘serious consequences’ over Russian naval base plans in Sudan. https://kyivindependent.com/us-warns-serious-consequences-over-russian-naval-base-plans-in-sudan/
– Reuters. (2025, May). Sudan accuses UAE of May 4 drone attacks on Port Sudan. https://www.reuters.com/world/middle-east/sudan-envoy-un-says-uae-carried-out-may-4-attacks-port-sudan-emirati-red-sea-2025-05-20/
– Carnegie Endowment. (2025, June). What Does Russia Seek to Gain from the Conflict in Yemen? https://carnegieendowment.org/russia-eurasia/politika/2025/05/russia-interest-yemen-conflict?lang=en
– ISW. (2025, August). Adversary Entente Task Force Update, August 13, 2025. https://www.understandingwar.org/backgrounder/adversary-entente-task-force-update-august-13-2025
– CFR. (2025, August). Conflict in Yemen and the Red Sea | Global Conflict Tracker. https://www.cfr.org/global-conflict-tracker/conflict/war-yemen