سياسةمختارات

إفريقيا وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط

يعتمد مستقبل الاستقرار في الشرق الأوسط على القدرة على خَلق أُطُر جديدة للتعاون الإقليمي تكون أقل اعتمادًا على ديناميكيات القوة التقليدية وأكثر استجابةً للواقع المحلي. وبهذا المعنى، فإن تعبئة دول البريكس واللاعبين الأفارقة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط من خلال المفاوضات يُوضِّح الانتقال إلى نظام دولي متعدد الأقطاب.

إن الدول الإفريقية تُواجه العديد من التحديات عند محاولتها إيجاد استجابة للأزمة الحالية في الشرق الأوسط المستمرة منذ أكتوبر 2023م. وعلى وجه الخصوص، فقد أصبح أمن إمدادات النفط والغذاء، فضلاً عن العواقب المترتبة على الإغلاق المحتمل للبحر الأحمر؛ في دائرة الضوء، وكذلك إمكانية إنشاء منصات تفاوض جديدة للسلام الدائم، مثل مجموعة البريكس.

وفي الوقت نفسه، فإن الديناميكيات الجيوسياسية -على سبيل المثال قمة البريكس لعام 2024م-، تثير مناقشات حول فعالية المؤسسات الدولية القائمة والبدائل الممكنة لحل الصراعات الدولية.

وبالنسبة لأغلب البلدان الإفريقية، فقد اكتسبت الأزمة في الشرق الأوسط طابعًا خاصًّا؛ فهناك معايير غربية مزدوجة في إدارة العلاقات الدولية، وعودة واضحة إلى الديكتاتورية الاستعمارية الجديدة؛ حيث أتاح وجود الجزائر في مجلس الأمن الدولي فرصة لأكبر دولة إفريقية للتعبير عن آرائها بشأن القضية الفلسطينية، والفظائع التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023م، وبالإضافة إلى المطالب السياسية؛ تسعى معظم الدول الإفريقية إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي.

أيضًا بالنسبة للعديد من بلدان القارة، لا تزال الأزمة الحالية في الشرق الأوسط تُشكِّل مصدرًا رئيسيًّا للقلق، ويُعدّ الشرق الأوسط منطقة رئيسية لإمدادات النفط التي تعتمد عليها العديد من الدول الإفريقية، وفي حالة انقطاع التيار الكهربائي لفترة طويلة، يمكن أن تعاني العديد من الاقتصادات (إثيوبيا وكينيا والسنغال) من صدمات كبيرة في مجال الطاقة، مما يُؤثِّر على أسعار الوقود والتضخم والاستقرار الاجتماعي، كما يؤثر ارتفاع تكاليف الطاقة على أسعار الموادّ الغذائية، بشكلٍ غير ملائم على الفئات الأكثر ضعفًا.

إن مسألة الأمن الغذائي، من حيث المبدأ، في غاية الأهمية. فعلى سبيل المثال، تُعدّ مصر واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم، وإذا استمرت التوترات، فقد يؤدّي النقص إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، خاصةً في المناطق التي تَعتمد على الاستيراد، وقد تُواجه العديد من البلدان الإفريقية، التي أضعفتها بالفعل أزمات المناخ والاضطرابات الاقتصادية، تدهورًا في ظروف العرض.

ولا يقتصر التأثير المحتمل لانقطاع إمدادات النفط على أسعار الطاقة فحسب، بل يمتد أيضًا إلى سلسلة التوريد الزراعية، فالوقود ضروريّ للآلات الزراعية ولوجستيات النقل وإنتاج الأسمدة، وإذا ارتفعت أسعار الطاقة، فقد يتعرَّض الإنتاج الزراعي للخطر أيضًا، مما يؤثر سلبًا على الأمن الغذائي، ويؤدي هذا الوضع إلى خلق حلقة مفرغة يؤدي فيها ارتفاع أسعار الطاقة إلى تسريع تضخم أسعار الغذاء بشكل مباشر، مما يجعل المواد الغذائية الأساسية غير ميسورة التكلفة بالنسبة لقطاع كبير من السكان.

في حين تشعر البلدان الإفريقية بالقلق إزاء العواقب الجيوسياسية المترتبة على تصاعد الصراعات في الشرق الأوسط، وإذا استمر عدم الاستقرار في المنطقة، فقد تتشدَّد السياسات التجارية، وقد تقرر بعض البلدان الحدّ من الصادرات لحماية سكانها، وسيؤدي هذا السيناريو إلى تفاقم مشاكل العرض في إفريقيا.

بينما يلعب البحر الأحمر، وهو طريق تجاري رئيسي يربط بين إفريقيا وآسيا، دورًا خاصًّا في تجارة النفط الدولية ونقله، وأيّ تعطيل أو إغلاق بسبب الصراع المتصاعد في الشرق الأوسط سيكون له عواقب فورية على اقتصادات العديد من البلدان الإفريقية.

على سبيل المثال، تعتمد جيبوتي وإريتريا وكينيا ومصر بشكل كبير على هذا الطريق البحري لاستيراد السلع الأساسية، وسيؤدي إغلاق أو تعطيل وسائل النقل في البحر الأحمر إلى زيادة التكاليف اللوجستية، مما يجعل من الصعب الوصول إلى السلع الحيوية لهذه البلدان.

وبالإضافة إلى ذلك، يُعدّ البحر الأحمر أيضًا طريقًا إستراتيجيًّا لعبور النفط الخام إلى الأسواق العالمية، وخاصةً أوروبا وآسيا، ولن يؤدي تعطيل هذا الطريق إلى زيادة التكاليف فحسب، بل سيُعرِّض توافر هذه الموارد في القارة أيضًا للخطر، وقد تكون العواقب الاقتصادية وخيمة؛ تتمثل في ارتفاع التضخم، انخفاض الإنتاج الصناعي، وزيادة الفقر في البلدان التي تعتمد بالفعل بشكل كبير على الواردات من الخارج.

وفي مواجهة هذه المخاطر؛ دعت مصر ودول أخرى إلى تعزيز الأمن البحري، وحصلت على دعم القوى العالمية فرنسا والولايات المتحدة، وتهدف المبادرات إلى حماية الشريان البحري الحيوي من التهديدات المحتملة مثل القرصنة والإرهاب والصراعات العسكرية، كما تم تنظيم عدة اجتماعات بين الدول المطلة على البحر الأحمر وممثلي القوى العالمية لبناء تحالفات بحرية، وتعزيز مراقبة المياه، وتبادل المعلومات الاستخبارية لضمان سلامة السفن التجارية.

إن الوضع في مصر يضع حكومتها في مواجهة شعب مناهض للغرب ومؤيد للفلسطينيين، وينطبق هذا أيضًا على معظم الأنظمة الإفريقية المدعومة من الغرب، والتي لا يوافق سكانها على هذا الاختيار، وفي المغرب، على سبيل المثال، يمكن أن ينجم عن ذلك اضطرابات مدنية.

كما يمكن أن يكون لإغلاق البحر الأحمر عواقب إنسانية كارثية، وبسبب انقطاع عبور السلع الأساسية -المواد الغذائية والأدوية والإمدادات الطبية-؛ فإن الفئات الأكثر ضعفًا من السكان ستعاني أكثر من غيرها، وتُحذِّر المنظمات غير الحكومية من أزمة إنسانية محتملة، وخاصةً في منطقة القرن الإفريقي، التي تعاني بالفعل من نقصٍ حادّ في الغذاء، وبما أن الهند والصين من كبار المُصدِّرين إلى إفريقيا، فمن المرجَّح أن تتأثر تجارتهما بشدة.

أيضًا سلطت الأزمة الحالية الضوء على التساؤلات المتعلقة بمدى فعالية آليات حفظ السلام الدولية القائمة في الشرق الأوسط، لقد شهدنا عدم فعالية الأصوات المؤيدة لروسيا في الأمم المتحدة، وإدانة النظام الإسرائيلي مِن قِبَل المحكمة الجنائية الدولية، فضلًا عن الفيتو الأمريكي المعتاد على قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى وضع حدّ للمذبحة في غزة، وقد تناولت قمة البريكس الأخيرة التي عُقِدَتْ في كازان عام 2024م قضية عدم الاستقرار الإقليمي وفرصة البريكس للعب دور أكثر فعالية في التوسط في النزاعات الدولية.

لقد عملت دول البريكس في الآونة الأخيرة على تعزيز التعاون، ووضع نفسها كبديل موثوق للمؤسسات الدولية التقليدية، بما في ذلك الأمم المتحدة، لحلّ الأزمات العالمية، وبالنسبة للعديد من البلدان الإفريقية، تُمثّل مجموعة البريكس منصة أكثر شمولاً للحوار، وأقل تأثرًا بالمصالح الغربية.

على سبيل المثال، يمكن لدول البريكس أن تعرض محادثات سلام بشأن الشرق الأوسط دون القيود الجيوسياسية التي غالبًا ما تُعيق عمل الأمم المتحدة.

كما لعبت جنوب إفريقيا، باعتبارها عضوًا في مجموعة البريكس، دورًا مُهمًّا في تحفيز النقاش حول النهج البديل للسلام في الشرق الأوسط. وإن الاستعداد للابتعاد عن الهياكل التقليدية متعددة الأطراف من شأنه أن يسمح للجنوب العالمي، بالتركيز بشكل أكبر على الاحتياجات الإقليمية والاقتصادية دون تدخُّل خارجي غير متوازن، وبالمساهمة في حلّ الصراعات.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التعاون بين مجموعة البريكس ودول الشرق الأوسط إلى إنشاء آليات تمويل مُبتكَرة وصناديق استقرار إقليمية يمكن استخدامها لدعم البلدان التي تمر بأزمات، ومن الممكن أيضًا استخدام هذه الأموال لإعادة إنشاء البنية التحتية التي دمَّرتها الصراعات، وهو ما سيكون حلًّا طويل الأمد لمنع العودة إلى العنف.

وقد أعربت كلٌّ من الصين وروسيا -وهما عضوان مؤثران في مجموعة البريكس-، عن دعمهما لنَهْجٍ من شأنه أن يُعزّز وساطة أكثر حيادية، متحررة من ضغوط القوى الاستعمارية السابقة، وقد يجذب هذا بلدانًا أخرى في الجنوب، بما في ذلك إفريقيا، التي ترى في هذه المبادرة فرصة لإعادة تشكيل النظام الدولي، وجعله أكثر عدالة، وقد بدأت البريكس بالفعل في إقامة اتصالات مع دول الخليج، سعيًا إلى تنسيق أهدافها فيما يتعلق بالسلام الإقليمي والتنمية الاقتصادية واستقرار الطاقة.

إن سياسة الانفتاح التي تنتهجها مجموعة البريكس تجاه دول الجنوب الجماعي تُغذِّي رغبة العديد من الدول في الانضمام إلى هذا النادي السياسي الاقتصادي الذي هو في مرحلة التشكيل، ويتجلى هذا بشكل خاص الآن بعد أن بدأ يتبلور إنشاء عملة موحدة ونظام دفع مشترك (دفع البريكس)، والذي يمثل بديلاً حقيقيًّا للدول الإفريقية التي تحتاج إلى التنمية.

إن وجهات النظر الإفريقية بشأن أزمة الشرق الأوسط تعتمد إلى حدّ كبير على المخاطر المرتبطة بإمدادات النفط والغذاء، فضلًا عن العواقب المحتملة لإغلاق البحر الأحمر.

وفي هذا السياق، تُقدّم قمة البريكس -كبديل محتمل للأمم المتحدة- خيارات جديدة حول كيفية إجراء مفاوضات السلام في المنطقة، كما يمكن لمجموعة البريكس أن تُوفّر للبلدان الإفريقية منصة أكثر استقلالية للتأثير على عملية السلام وفرصة لتنويع الشركاء الدبلوماسيين، وتقديم حلول أكثر ابتكارًا وتقليل الاعتماد على الهياكل التقليدية متعددة الأطراف.

وربما يعتمد مستقبل الاستقرار في الشرق الأوسط على القدرة على خَلق أُطُر إقليمية جديدة للتعاون تكون أقل اعتمادًا على ديناميكيات القوة التقليدية، وأكثر استجابةً للواقع المحلي، وبهذا المعنى؛ فإن حشد مجموعة البريكس واللاعبين الأفارقة لتحقيق السلام عن طريق التفاوض في الشرق الأوسط يُوضِّح الانتقال إلى نظام دولي مُتعدّد الأقطاب؛ حيث تتمتع كل منطقة بالمزيد من القوة لإدارة تحدياتها الخاصة.

المصدر

https://ru.valdaiclub.com/a/highlights/bezopasnost-nezavisimost-i-nadezhda-afrika

Admin

القرن الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات: مؤسسة بحثية مستقلة، تأسست عام 2020 تقوم على إعداد البحوث والدراسات والتقديرات وأوراق السياسات، وتنظيم الفعاليات العلمية والأكاديمية وتقديم الاستشارات حول التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية في منطقة القرن الأفريقي، وما يرتبط بها من تفاعلات إقليمية ودولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى