المنتدى الأفريقيتحليلات وتقديراتمختارات

السياسة الإماراتية تجاه موانئ شرق أفريقيا: تنزانيا نموذجاً

تعد مواني شرق إفريقيا، مثل ممباسا ودار السلام، هي شريان حيوي للتجارة، حيث تربط الدول الحبيسة بالمنطقة بالأسواق العالمية، وتلعب هذه المواني دورًا رئيسًا في دفع النمو الاقتصادي، إذ تعد محركات رئيسة للاقتصاد في دول شرق إفريقيا، حيث تساهم حركة البضائع والصادرات والواردات في تعزيز النشاط التجاري وخلق الفرص الاستثمارية.

وتحتل مواني شرق إفريقيا أهمية جيواستراتيجية كبيرة في سياق التنافس الدولي على النفوذ، في ضوء تنافس القوى العالمية الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والصين والدول الأوروبية، على الوصول إلى المنطقة كجزء من استراتيجيات جيوسياسية أوسع.

وتجسد صفقة “ميناء تنزانيا-دبي” الاندماج المتزايد بين المصالح الاقتصادية والجيواستراتيجية في إفريقيا. هذا، وقد أثار تركيز دبي على تأمين الممرات التجارية والاستثمارات في البنية التحتية للموانئ مخاوف بشأن الشفافية والسيطرة الأجنبية طويلة الأجل على مواني تنزانيا، وتسبب تسريب تفاصيل الاتفاقية في تصاعد الانتقادات من جانب المجتمع المدني والمعارضة السياسية.

ويمكن أن يحفز تطوير الموانئ الفعال النمو الاقتصادي ويجذب الاستثمار الأجنبي، ولكنه ينطوي أيضًا على مخاطر الديون غير المستدامة، والتنازل المحتمل عن السيادة الوطنية، مما يحتم على دول شرق إفريقيا أن تتحرك بحذر شديد وسط التنافس على النفوذ من قِبل القوى العالمية والإقليمية، خاصة عند النظر إلى التمويل الأجنبي الضخم لمشاريع الموانئ.

إن موقع شرق إفريقيا الاستراتيجي على طول طرق التجارة العالمية الرئيسة، مثل خليج عدن، جعل موانيها عُقدًا رئيسة في التجارة الدولية، وتعتبر مواني شرق إفريقيا، بما في ذلك تلك الموجودة في تنزانيا وكينيا وجيبوتي، ضرورية لترانزيت السلع بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتعمل هذه الموانئ على ربط الدول الحبيسة بالأسواق الدولية، مما يكسبها أهمية استراتيجية للقوى العالمية، حيث تساهم في الديناميكيات الجيواستراتيجية. ومع ذلك، يرتبط نشاط الموانئ ارتباطًا وثيقًا بالسياسات المحلية التي تتبع أحيانًا مصالح معينة قد لا تضع دائمًا مصلحة عامة المواطنين في الاعتبار.

الأهمية الاقتصادية لمواني شرق إفريقيا

تلعب مواني شرق إفريقيا، مثل ممباسا في كينيا ودار السلام في تنزانيا، دور البوابة الرئيسة للواردات والصادرات، وتتعامل هذه الموانئ مع نسبة كبيرة من البضائع الموجهة إلى الدول الحبيسة في المنطقة، بما في ذلك جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان، ويمثل تشغيل الموانئ بكفاءة عالية وتطوير البنية التحتية المرتبطة بها، أمران ضروريان لخفض تكاليف النقل، مما يؤثر بشكل إيجابي على قدرة السلع على المنافسة من حيث السعر. ويمكن القول إن مواني شرق إفريقيا تسهم بدور محوري في نمو اقتصادات دولها من خلال عدة جوانب:

  1. تساهم حركة البضائع والرسوم الجمركية في توليد إيرادات حكومية مهمة، كما توفر الأنشطة التجارية والخدمات اللوجستية المرتبطة بالموانئ فرص عمل مباشرة وغير مباشرة.
  2. تساهم عائدات الموانئ في تمويل مشاريع البنية التحتية الأخرى، مثل الطرق والقنوات، التي تحسن الاتصال داخل الدول وتربطها بالمنطقة ككل، وهذا بدوره يسهل النشاط التجاري، ويساهم في النمو الاقتصادي.
  3. تعتبر الموانئ ذات الكفاءة العالية مصدرًا لجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في المناطق المحيطة بالموانئ، وهذه الاستثمارات يمكن أن تؤدي إلى إنشاء مناطق صناعية ومراكز تصنيعية جديدة، مما يخلق فرص عمل ويعزز النمو الاقتصادي.
  4. يمكن أن تكون الموانئ بمثابة محفزات للتنمية الصناعية، حيث توفر الموانئ ذات البنية التحتية الجيدة الوصول إلى الأسواق العالمية والمواد الخام، مما يجعلها مواقع جذابة للشركات المصنعة.
  5. يمكن أن تلعب المناطق الاقتصادية الخاصة المرتبطة بالموانئ دورًا مهمًّا في تعزيز جاذبية الموانئ للاستثمار الأجنبي، لا سيما إذا قامت هذه المناطق بتوفير إعفاءات ضريبية وغيرها من الحوافز للشركات التي تستثمر في المنطقة.

كذلك تجدر الإشارة إلى أن مواني شرق إفريقيا تلعب دورًا مهمًّا في تعزيز التكامل الإقليمي، وذلك من خلال عدة جوانب:

  1. توفر الموانئ البنية التحتية والخدمات اللوجستية اللازمة لتسهيل التجارة بين دول شرق إفريقيا، مما يعمل على تخفيض تكاليف النقل، ويزيد من حجم التجارة البينية بين دول المنطقة، الأمر الذي يعود بالفائدة على اقتصادات دول شرق إفريقيا.
  2. يخلق النشاط التجاري المتزايد روابط اقتصادية أقوى بين دول شرق إفريقيا، مما قد يقود إلى تعاون أكبر في مجالات أخرى، مثل الأمن والتنمية.
  3. يمكن أن يساهم التكامل الاقتصادي في تحقيق الاستقرار الإقليمي عن طريق الحد من النزاعات وتعزيز المصالح المشتركة.
  4. إن انضمام جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى مجموعة شرق إفريقيا عام 2022، أضاف ديناميكية جديدة بسبب الإمكانات الهائلة لصادرات المعادن والذهب من شرق الكونغو الديمقراطية.

الاعتبارات الجيواستراتيجية لمواني شرق إفريقيا

تتجاوز أهمية مواني شرق إفريقيا المجال الاقتصادي، حيث أصبح لها تأثير جيوسياسي كبير على الصعيد العالمي، وذلك في ضوء تميزها بموقع استراتيجي على طول ممرات التجارة العالمية الرئيسة، مما يجعلها محط أنظار القوى العالمية الكبرى، وفي هذا الإطار، تتنافس دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي على النفوذ والوصول إلى هذه المنطقة، وذلك ضمن استراتيجياتها الجيوسياسية الأوسع.

ويمكن أن يشمل هذا التنافس الاستثمار في البنية التحتية للموانئ والمناطق المحيطة بها، وكذلك تعزيز العلاقات السياسية والعسكرية مع دول شرق إفريقيا. كما أن لتطوير الموانئ في شرق إفريقيا دورا مهما في إنجاح مشاريع التنمية الجاري تنفيذها، مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، ويمكن أن يساهم دعم الجهات الخارجية لتطوير الموانئ في تحقيق أهداف التنمية الإفريقية.

كذلك تمتد أهمية مواني شرق إفريقيا لتشمل الأمن الإقليمي والدولي، حيث تقع مواني شرق إفريقيا بالقرب من ممرات مائية استراتيجية، مثل قناة السويس ومضيق باب المندب وخليج عدن، والتي تعتبر شريانا حيويا للتجارة البحرية العالمية.

وبالتالي يلعب أمن هذه الموانئ دورًا رئيسًا في ضمان أمن الملاحة البحرية الدولي، ويؤثر استقرار وأمن الموانئ بشكل مباشر على استمرارية التجارة العالمية، وأي اضطرابات أو أعمال عنف تستهدف الموانئ يمكن أن تؤدي إلى تعطيل حركة الشحن البحري وتكبيد الاقتصاد العالمي خسائر اقتصادية كبيرة. بالإضافة إلى تأثير مواني شرق إفريقيا على العلاقات الدولية، حيث يمكن أن تُستخدم اتفاقيات الموانئ كورقة ضغط أو مساومة بين الدول، كما أنه لا تؤثر اتفاقيات الموانئ فقط على العلاقات الثنائية بين الدول، ولكن يمكن أن يكون لها تأثير أيضًا على السياسات الإقليمية الأوسع، على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استثمار دولة خارجية في ميناء ما إلى توتر العلاقات مع دول مجاورة تشعر بالتهميش أو القلق بشأن هيمنة لاعب خارجي معين.

اتفاقية ميناء تنزانيا-دبي

في السنوات القليلة الماضية، شهدنا منافسة متزايدة بين تنزانيا وكينيا فيما يتعلق بتأمين ممرات تجارية من الدول الحبيسة وإليها، مثل شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وأوغندا ورواندا وبوروندي إلى مواني المحيط الهندي.  

استثمرت تنزانيا خلال السنوات الخمس الماضية حوالي 421 مليون دولار أمريكي في البنية التحتية لموانيها لتحسين قدرتها التنافسية الاقتصادية، بالإضافة إلى الاستثمار المُقدر بـ10 مليارات دولار أمريكي في خط سكة حديد جديد يربط بين دار السلام وبحيرة تنجانيقا عبر دودوما. 

وبعد سنوات من التقارب السياسي بين تنزانيا ودول الخليج، قامت تنزانيا في أكتوبر 2022 بتوقيع ما يسمى بـ “الاتفاقية الحكومية الدولية مع دبي”، في ضوء الحاجة إلى التحديث والاستثمار الدولي بميناء دار السلام لمواكبة الموانئ الإقليمية الأخرى، مثل ميناء مومباسا. وفي 10 يونيو 2023، صوّت البرلمان لصالح مشروع القانون ذي الصلة لتنفيذ الاتفاقية الحكومية الدولية.

بعد أسابيع قليلة فقط من توقيع اتفاقية الموانئ بين تنزانيا ودبي، تم نشر أجزاء من الاتفاقية؛ مما أثار قلق قطاعات من الشعب التنزاني، وتوجيه انتقادات للاتفاقية من قِبل أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، حيث صرحت جمعية نقابة المحامين في تنجانيقا علنًا بأن “الاتفاقية لم تتم صياغتها بشكل جيد، مما أدى إلى الغموض والشكوك والالتباس وتفسيرات مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، هناك بنود/فقرات تتجاهل أو تتعارض أو تخالف المصالح الوطنية، ومن المقترح إزالتها تمامًا”.

وفي ضوء ذلك، قامت السلطات التنزانية باعتقال شخصيات معارضة بارزة، مثل الأمين العام السابق لحزب تشيما الدكتور “ويليبورود سلاا”، واتهمتهم بالتحريض والخيانة العظمى (وهي جرائم عقوبتها الإعدام في تنزانيا)، علاوة على ذلك، فإن تقديم مشروع قانون مؤخرًا في البرلمان التنزاني لتعديل قانون إدارة المعادن والموارد دون مناقشة كافية أثار المزيد من الشكوك العامة، مما دفع البرلمان إلى مراجعة مشروع القانون إلى حين مشاركة المزيد من المعلومات مع الجمهور.

وتشير الانتقادات إلى أن الاتفاقية -في صيغتها الحالية- قد تمنح شركة مواني دبي العالمية حقوقًا حصرية لإدارة جميع مواني البر الرئيسي التنزاني، بما في ذلك ميناء متوارا في جنوب تنزانيا، والذي يقع بالقرب من الحدود مع موزمبيق، حيث توجد احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى موارد اليورانيوم.

التداعيات المستقبلية للاتفاقية

يرى المراقبون أنه عند التفكير في كيفية تأثير الاتفاقية على العمليات المستقبلية لميناء دار السلام، فمن المهم النظر في التغييرات المحتملة في مجال التكنولوجيا ومتطلبات السوق، ومن ثمّ، يجب أن تتيح الاتفاقية لإدارة الميناء القدرة على التكيف مع التغييرات لضمان استمرار نجاح الميناء واستدامته. كما أنه من الضروري مراقبة وتقييم تأثير الاتفاقية على الميناء بمرور الوقت، وإجراء التعديلات اللازمة للحفاظ على فاعليته.

بالإضافة إلى ذلك، من المهم مراقبة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للاتفاقية على المدى الطويل، على سبيل المثال، قد يؤدي تحديث الميناء إلى خلق فرص عمل جديدة، ولكن قد يؤدي أيضًا إلى الاستغناء عن بعض العمال الحاليين. ولذلك من الضروري مراقبة هذه الآثار والتدخل لمعالجتها عند الضرورة. وبشكل عام، فإن نجاح الاتفاقية على المدى الطويل يعتمد على قدرة أصحاب المصلحة على التكيف مع التغييرات المستقبلية، والمراقبة المستمرة لتأثيرات الاتفاقية، وبالإضافة إلى ذلك يرى الخبراء أنه يتعين وضع بعض الأمور بعين الاعتبار لضمان فاعلية الاتفاقية على المدى الطويل، مما يساهم بدوره في تطوير ميناء دار السلام وتعزيز الاقتصاد التنزاني، ويشمل ذلك ما يلي:

  1. مناقشة التغييرات المحتملة: حيث يجب أن تكون هناك عملية دورية لمناقشة التغييرات التي قد تتطلب تعديل الاتفاقية، على سبيل المثال، قد تتطور تقنيات جديدة في مجال الشحن البحري، أو قد تتغير القوانين التجارية الدولية، ومن خلال مناقشة هذه التغييرات بشكل استباقي، يمكن لأصحاب المصلحة تعديل الاتفاقية لضمان استمرارها في تلبية احتياجات الميناء.
  2. وضع آلية للتقييم والتعديل: بحيث يتم تقييم مدى نجاح الاتفاقية بشكل منتظم، ويمكن أن يتضمن ذلك مراجعة أداء الميناء، وتأثير الاتفاقية على المجتمع المحلي والبيئة، ومدى تحقيق الأهداف المرجوة منها. وبناءً على نتائج التقييم، يمكن لأصحاب المصلحة إجراء تعديلات على الاتفاقية إذا لزم الأمر.
  3. التزام الشفافية والتعاون: مع تشجيع إشراك جميع أصحاب المصلحة، حيث سيساعد ذلك على بناء الثقة، وتعزيز التعاون لصالح نجاح الميناء على المدى الطويل.
  4. الاستدامة: بحيث تضع الاتفاقية في عين الاعتبار أهداف الاستدامة البيئية والاجتماعية، على سبيل المثال، يمكن للاتفاقية أن تتضمن بنودًا تتعلق بحماية البيئة المحيطة بالميناء، أو تدريب العمال المحليين على مهارات جديدة.

خاتمة

تُشكل مواني شرق إفريقيا جزءًا لا يتجزأ من التجارة الإقليمية والعالمية، حيث تعمل على دفع النمو الاقتصادي والتكامل، وتبرز أهميتها الجيوسياسية، كما هو موضح في اتفاقية ميناء تنزانيا-دبي، من خلال التشابك المعقد بين الاقتصاد والسياسة والعوامل الجيوسياسية في المنطقة.  

وقد أثار قرار تنزانيا الدخول في اتفاقية حكومية دولية لمدة 100 عام مع مواني دبي العالمية لإدارة مواني البر الرئيسي والممرات التجارية التابعة لها جدلًا واسعًا سلّط الضوء على التحديات المتمثلة في كيفية تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والاستثمار الأجنبي والحفاظ على السيادة الوطنية في نفس الوقت. ومع استمرار تنمية شرق إفريقيا وتنافس الفاعلين الدوليين على النفوذ، فإن فهم هذه الديناميكيات أمر ضروري لصناع القرار وأصحاب المصلحة الذين يسعون إلى الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية لهذه الموانئ.

المصدر:

مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار (مصر)، تاريخ النشر 4 أغسطس/ آب 2024، الرابط

https://www.idsc.gov.eg/Article/details/10398

Admin

القرن الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات: مؤسسة بحثية مستقلة، تأسست عام 2020 تقوم على إعداد البحوث والدراسات والتقديرات وأوراق السياسات، وتنظيم الفعاليات العلمية والأكاديمية وتقديم الاستشارات حول التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية في منطقة القرن الأفريقي، وما يرتبط بها من تفاعلات إقليمية ودولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى