المنتدى الأفريقيمختارات

شينخوا: جذور وحقائق ومخاطر الهيمنة العسكرية الأمريكية

أصدر معهد (شينخوا)، وهو مركز الأبحاث التابع لوكالة أنباء (شينخوا) الصينية، تقريراً حول “جذور وحقائق ومخاطر الهيمنة العسكرية الأمريكية، في سبتمبر 2023، وفيما يلي النص الكامل للتقرير، كما نشره الموقع الرسمي للمعهد.

المقدمة

الباب الأول ــ تشكّل الهيمنة العسكرية الأمريكية

1.1 تطور ونمو الهيمنة العسكرية الأمريكية

1.2 جذور فكر الهيمنة العسكرية الأمريكية

1.3 الدوافع الأساسية للهيمنة العسكرية الأمريكية

الباب الثاني ــ ممارسات ووسائل الولايات المتحدة للحفاظ على الهيمنة العسكرية

2.1 السيطرة الصريحة: الحروب والقواعد العسكرية

2.2 السيطرة الضمنية: التحالفات والقوانين

2.3 الأنماط والاتجاهات الجديدة

الباب الثالث ــ المخاطر العالمية للهيمنة العسكرية الأمريكية

3.1 الكوارث الإنسانية

3.2 المساس بسيادة الدول

3.3 تفكيك النظام

3.4 انعكاس التداعيات السلبية على الذات

الخاتمة

المقدمة

في 30 أغسطس عام 2021، أقلعت طائرة نقل عسكرية أمريكية تُقل الدفعة الأخيرة من القوات الأمريكية من مطار حامد قرضاي الدولي في أفغانستان، وهو ما كان إيذاناً بنهاية أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. ووصف مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، في وقت لاحق نهاية الحرب الأمريكية في أفغانستان بأنها “فشل استراتيجي” للولايات المتحدة وذلك عند إدلائه بشهادته أمام الكونغرس. وأثارت الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة وأضرارها مرة أخرى تساؤلات كبيرة في الداخل والخارج.

كما تحل في عام 2023 الذكرى الـ20 للغزو الأمريكي للعراق. إنها حرب عدوانية شنتها الولايات المتحدة ضد دولة ذات سيادة استنادا إلى أكاذيب سعيا وراء أمن مطلق وتحقيقا لمصالحها الجيوسياسية، مكلفة العراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره والولايات المتحدة نفسها ثمنا باهظا وتاركة آثارا بعيدة المدى عليهم جميعا.

منذ استقلالها في عام 1776، سعت الولايات المتحدة باستمرار إلى التوسع باستخدام القوة: وسعت أراضيها بعد الحرب المكسيكية الأمريكية، لتصبح قوة عابرة للأقاليم، وتوغلت في نصف الكرة الغربي وشرق آسيا بعد الحرب الأمريكية الإسبانية، لتصبح قوة عظمى عالمية بعد الحربين العالميتين، واكتسبت القدرة على استعراض القوة ووضع القواعد في جميع أنحاء. في أعقاب الحرب العالمية الباردة، حلت الهيمنة أحادية القطب محل الهيكل ثنائي القطب، وبعدها حققت الولايات المتحدة الهيمنة العسكرية العالمية. ومنذ ذلك الحين، حرصت الولايات المتحدة على الحفاظ على هيمنتها العسكرية باستخدام القوة وغيرها من الوسائل.

على مدى تاريخ الولايات المتحدة الممتد لأكثر من 240 عاماً، لم تكن البلاد في حالة انخراط في حرب سوى لأقل من 20 عاماً. كما يمكن تسمية الولايات المتحدة بالدولة الأكثر ولعا بالحرب في تاريخ العالم. ووفقا لإحصاءات غير كاملة، فإنه من نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 إلى عام 2001، وقع 248 صراعا مسلحا في 153 منطقة حول العالم، 201 منها كانت الولايات المتحدة هي البادئة بها ومثلت حوالي 81 في المائة. إن الولايات المتحدة لديها مخالب عسكرية في جميع أنحاء العالم وتمتلك حاليا حوالي 750 قاعدة عسكرية في 80 دولة على الأقل حول العالم. ومن بين الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة، هناك حوالي 175 دولة يتمركز فيها أفراد عسكريون أمريكيون. ومنذ عام 2001، شنّت الولايات المتحدة حروبا وعمليات عسكرية في أكثر من 80 دولة في أرجاء العالم بحجة “مكافحة الإرهاب”، وهو ما أسفر بشكل مباشر عن مقتل حوالي 929 ألف شخص، من بينهم 387 ألف مدني، ونزوح نحو 38 مليون شخص أو تحويلهم إلى لاجئين.

خلال هذه العملية، دأبت الولايات المتحدة على اتباع “طريقة تفكير إمبريالية” مثل فكر “القدر المحتوم” و”الاستثنائية الأمريكية”، وبررت أفعالها القائمة على الهيمنة تحت ستار نظرية القوة البحرية ونظرية استقرار الهيمنة. وتحت محرك سعيها الضيق إلى امتلاك القوة المطلقة وتحقيق مصالحها وبلوغ طموح يرمي إلى السيطرة على الأرض والبحر والسماء وحتى الفضاء الخارجي، شنّت الولايات المتحدة مرارا حروبا وتدخلت في “الشؤون الداخلية للدول الأخرى، في محاولة منها لإقامة ما يسمى بـ”باكس أمريكانا”، وهو في الواقع عالم أحادي القطب يخضع لهيمنة الولايات المتحدة.

أخذت الولايات المتحدة، بهيمنتها العسكرية، تنتهج سياسات وسلوكيات تقوم على الهيمنة، متسببة بذلك في إلحاق أضرار جسيمة بالعالم بأسره؛ وإزهاق أرواح وانتهاك الكرامة الإنسانية، والدوس على سيادة الدول الأخرى، والإخلال بالنظام الدولي، وعرقلة التنمية السلمية، وجلب كوارث إنسانية، وتعريض الأمن والاستقرار العالميين للخطر، وإعاقة تقدم الحضارة الإنسانية، فضلا عن الإضرار بنفسها.

يهدف هذا التقرير، من خلال عرض الحقائق والبيانات، إلى تتبع السبب الجذري للهيمنة العسكرية الأمريكية، واستكشاف كيف سعت الولايات المتحدة إلى بلوغ هيمنتها العسكرية وحافظت عليها وأساءت استخدامها، فضلا عن كشف المخاطر التي تشكلها ممارسات الهيمنة العسكرية الأمريكية على العالم بأسره.

الباب الأول: تشكّل الهيمنة العسكرية الأمريكية

على مر تاريخ الولايات المتحدة، أخفى العديد من الساسة طموح أمريكا إلى الهيمنة العالمية. فقد طمعوا في “الهيمنة على المحيطات وجميع البحار”، وتنبأوا بأن الولايات المتحدة “قد تصبح الإمبراطورية الأكثر قوة وترهيبا في جميع أنحاء العالم عبر التاريخ”. لقد تخيلوا أن الأمة الأمريكية يمكنها “أن تسيطر على القارة الأمريكية كخطوة أولى لتحقيق الهيمنة العالمية، وسرعان ما تضع بعد ذلك العالم بأسره تحت سيطرتها”، وتدعي مجيء “القرن الأمريكي”.

يعد التاريخ بمثابة مرآة. عند النظر من منظور واسع، يتبين أن تاريخ تشكّل الهيمنة العسكرية الأمريكية وصعودها وترسخها وتوسعها تزامن مع توسّع الولايات المتحدة من الشرق إلى الغرب، ومن الأرض إلى البحر، ومن مناطق مختلفة إلى العالم، وجميعها نابعة من “الفكر الإمبريالي”.

1.1 تطور ونمو الهيمنة العسكرية الأمريكية

يمكن تقسيم تاريخ الهيمنة العسكرية الأمريكية إلى أربع مراحل رئيسية: تشكلت في الفترة ما بين الحرب المكسيكية الأمريكية والحرب الأمريكية الإسبانية، وتأسست في النهاية بين الحربين العالميتين، ثم واجهت منافسة خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وبلغت أوجها منذ نهاية الحرب الباردة.

* قامت الولايات المتحدة بعمل الاستعدادات لاكتساب الهيمنة في الفترة الممتدة من الحرب المكسيكية الأمريكية في منتصف القرن التاسع عشر إلى الحرب الإسبانية الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر.

بدأت الولايات المتحدة، بعد استقلالها وتأسيسها، حركة “التوسع غربا” التي استمرت لما يقرب من مائة عام. وكانت الحرب المكسيكية الأمريكية في الفترة من عام 1846 إلى عام 1848 أول عملية عسكرية كبرى تقوم بها الولايات المتحدة خارج حدودها، والمرة الأولى التي تحتل فيها أراضي دولة أخرى. استولت الولايات المتحدة على حوالي 2.3 مليون كيلومتر مربع من الأراضي قبل هذه الحرب وبعدها، وتوسعت عبر قارة أمريكا الشمالية، وتمكنت من الوصول إلى المحيط الهادئ، الأمر الذي هيأ الظروف اللازمة لتوسعها العسكري والاقتصادي اللاحق في المحيط الهادئ وشرق آسيا.

في نهاية القرن التاسع عشر، ارتفعت داخل البلاد دعوات منادية بالتوسع العسكري، ومضت عملية تحديث البحرية الأمريكية قدما بشكل تدريجي. وتعتبر الحرب الإسبانية الأمريكية في عام 1898 ذروة الحقبة الإمبريالية الأولى للولايات المتحدة بعد تأسيسها. وفي هذه الحرب، التي كانت أول حرب استعمارية تخوضها الولايات المتحدة خارج أمريكا الشمالية، هزمت الولايات المتحدة إسبانيا وسيطرت على كوبا وبورتوريكو والفلبين وغوام، وفي الوقت نفسه ضمت هاواي، وهو ما يبرهن على أن الولايات المتحدة سارت على طريق الهيمنة والتوسع باستخدام القوة. وتمتلك الولايات المتحدة الآن قواعد عسكرية في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادي، وهذا يشير بدوره إلى توسعها السريع ورغبة حاكمها في تعزيز قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

* الهيمنة العسكرية الأمريكية تأسست خلال الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين.

تحسنت القوة العسكرية للولايات المتحدة بشكل كبير خلال الحرب العالمية الأولى. بعد اندلاع الحرب، أقرت الولايات المتحدة قانون الدفاع الوطني والقانون البحري في عام 1916 لزيادة حجم قواتها البرية والبحرية. ثم انضمت إلى الحرب في عام 1917 ونشرت قوات عسكرية على نطاق واسع في أوروبا. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ارتقت الولايات المتحدة لتصبح قوة مهمة في العالم. فلم يقتصر الأمر على ارتفاع عدد المجندين في الجيش الأمريكي من أقل من 130 ألف فرد في عام 1917 إلى 4 ملايين فرد، وإنما تم أيضا إنشاء قوة قتالية آلية جديدة ونظام دعم لوجستي. وفي الوقت نفسه، استمرت قوتها البحرية في النمو وبلغ حجمها حجم نظيرتها بالمملكة المتحدة نتيجة صدور معاهدة واشنطن البحرية، المعروفة أيضا باسم معاهدة القوى الخمس، في عام 1922. وفُرضت قيود عسكرية على اليابان وفقدت المملكة المتحدة هيمنتها أمام الولايات المتحدة في هذا الصدد.

حدثت نهاية الحقبة الأوروبية في السياسة العالمية عندما كانت الحرب العالمية الثانية في عنفوانها. وأظهرت الولايات المتحدة، التي كانت بعيدة عن ساحة المعركة، إمكانات عسكرية ضخمة. فقد قاتلت على الجبهتين في المحيط الهادئ وأوروبا على التوالي، وكانت الدولة الوحيدة التي صارت أقوى مما كانت عليه قبل الحرب.

في أغسطس عام 1945، ألقت الولايات المتحدة قنابل ذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، ما عجّل بنهاية الحرب العالمية الثانية وكشف مدى قوة الأسلحة النووية وأرسى أساسا هاما للهيمنة العسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. والولايات المتحدة هي حتى الآن الدولة الوحيدة التي استخدمت أسلحة نووية في الحروب.

لم تحقق الولايات المتحدة النصر في الحرب العالمية الثانية فحسب، بل وضعت أيضا حجر الزاوية للهيمنة – آلة حرب غير مسبوقة. في نهاية الحرب، كان لدى الولايات المتحدة 12.5 مليون جندي، منهم 7.5 ملايين متمركزين في الخارج، وامتلكت أسطولا بحريا من حوالي 1200 سفينة حربية كبيرة، إلى جانب قوة جوية تضم قاذفات بعيدة المدى، كما احتكرت الأسلحة النووية. مع ترسيخ هيمنتها العسكرية بعد الحربين العالميتين، أصبحت الولايات المتحدة أول قوة في التاريخ تسيطر على المحور الإستراتيجي الممتد عبر “طرفي القارة الأوراسية”

مع تمتعها بنفوذ وسيطرة غير مسبوقين في جميع أنحاء العالم.

* الحرب الباردة، التي دامت لأكثر من 40 عاما، مثّلت فترة التنافس على الهيمنة العسكرية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

خلال فترة الحرب الباردة، أنفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي استثمارات ضخمة على القوى العاملة والمواد في إطار سباق تسلح وشنتا حروبا أو حروبا بالوكالة في الخارج. وهدفت كل من الحربين الواسعتين اللتين انخرطت فيهما الولايات المتحدة خلال هذه الفترة، وهما الحرب الكورية وحرب فيتنام، إلى “احتواء توسع الشيوعية”.

في عام 1950، اقترحت أهداف وبرامج الولايات المتحدة للأمن القومي (مذكرة مجلس الأمن القومي الأمريكي رقم 68) إستراتيجية التفوق العسكري “التي بُنيت بخطى أسرع في العالم الحر” لتعبئة الناس وتحقيق “القوة الشاملة” كمبدأ توجيهي أساسي للبلاد خلال الحرب الباردة. وتضمنت البرامج المختلفة التي صيغت وفقا لذلك: توسع كبير في الميزانية العسكرية للولايات المتحدة، وتطوير الأسلحة التقليدية والنووية، وتحسين التفوق التكنولوجي، وترهيب الاتحاد السوفيتي، والدفاع عن مصالحها في الخارج.

وتحقيقا لهذه الغاية، سعت الولايات المتحدة إلى بناء قوات تقليدية ونووية تقوم على التكنولوجيا الفائقة، فضلا عن نظام ضخم من التحالفات الثنائية والمتعددة الأطراف والقواعد العسكرية في جميع أنحاء العالم، وكان هذان العنصران الأخيران غير متوفرين لدى الاتحاد السوفيتي. وأشار الخبراء إلى أنه في الخمسينيات من القرن العشرين، قامت الولايات المتحدة بتعويض تفوق الاتحاد السوفيتي في نطاق القوة التقليدية بتفوقها في الطاقة النووية. وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان بإمكان الاتحاد السوفيتي منافسة الولايات المتحدة في مجال الطاقة النووية، لكن الولايات المتحدة طورت أسلحة تقليدية موجهة وأنشأت شبكات ساحة المعركة.

وقد مكّنت “إستراتيجيا التعويض” هاتين الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها في المنافسة مع الاتحاد السوفيتي على الهيمنة العسكرية بل والحفاظ عليها في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

* الهيكل ثنائي القطب انتهى مع انتهاء الحرب الباردة وشهدت الولايات المتحدة أوج هيمنتها العسكرية.

مع تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة التي تمتلك قوة عسكرية ساحقة حيث احتلت المرتبة الأولى من حيث الإنفاق العسكري. وصار يمكنها السيطرة على جميع المحيطات والبحار في العالم، كما طورت القدرة العسكرية للسيطرة على السواحل من خلال عمليات بحرية وبرية وجوية منسقة؛ وثمة دول خادمة وتابعة لها كانت منتشرة في جميع أنحاء القارة الأوراسية.

من أجل الحفاظ على هيمنتها العسكرية، صعدت الولايات المتحدة من ناحية تدخلها العسكري وردعها العسكري في العالم من خلال زيادة نفقاتها الدفاعية، وتوسيع قوتها العسكرية، وبناء القواعد، ومن ناحية أخرى، حاولت تبرير ضرورة وجود تحالفات عسكرية تكون هي نفسها قائدها من خلال العمليات العسكرية. وللحيلولة دون تضاؤل تماسك التحالفات في نهاية الحرب الباردة، شجعت الولايات المتحدة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على التوسع شرقا في التسعينيات وحافظت على تحالفات ثنائية في آسيا والمحيط الهادئ لحماية مصالحها العسكرية والجيوسياسية العالمية.

بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، شنت الولايات المتحدة حروبا في أفغانستان والعراق، ونفذت عمليات عسكرية في ليبيا وسوريا. لقد استنفدت “الحرب العالمية على الإرهاب” طويلة الأمد القوة الوطنية للولايات المتحدة وألحقت الضرر بسمعتها. وأصبح الأمريكيون أقل رغبة في رؤية استخدم قوة بلادهم العسكرية ضد الدول الأخرى. ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحتل مكانة مهيمنة في المجال العسكري، وتسعى جاهدة إلى الحفاظ على هيمنتها العسكرية في القرن الـ21 من خلال دمج وتطبيق التكنولوجيات الجديدة والمفاهيم العملياتية الجديدة وتعميق وتعديل نظام التحالفات.

1.2 جذور فكر الهيمنة العسكرية الأمريكية

إن مفاهيم “الإمبريالية” و”الهيمنة” و”السلطة” موجودة طوال تاريخ الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن البلاد ترفض كلمة “إمبريالية” من الناحية السياسية، إلا أن المفهوم متأصل بعمق في روحها منذ تأسيسها. وقد أثرت الفكرة باستمرار على سياسات الولايات المتحدة وسلوكها في مسيرتها نحو الهيمنة العسكرية العالمية.

فقد أعلن الشاعر والكاتب الأمريكي والت ويتمان في بداية عام 1860 أن الولايات المتحدة هي إمبراطورية حيث قال: “أنا أغنّي لهذه الإمبراطورية الجديدة، إنها أعظم من أي إمبراطورية سابقة — وذلك كما بدت لي في رؤية راودتني؛ أنا أغنّي لأمريكا، السيد، أنا أغنّي لسلطة أعظم وأكبر”.

أما كِتَاب الكاتب الأمريكي روبرت كابلان، الذي قدم وصفا للولايات المتحدة، فكان ببساطة يحمل عنوان “إمبراطورية برية”. علاوة على ذلك، أشار المؤرخ الأمريكي برنارد ديفوتو ذات مرة بشكل مباشر ودقيق إلى أنه “سواء كان ذلك حلما أم حقيقة، فإن الإمبراطورية الأمريكية كانت موجودة قبل ولادة الولايات المتحدة”.

* مفهوم مصير الإمبراطورية: من “القدر المحتوم” إلى “الاستثنائية الأمريكية

إن عمليات التوسع العسكري والحروب وقعت باستمرار طوال تاريخ الولايات المتحدة، والجذور الأيديولوجية لذلك تعود إلى مفهوم “مصير الإمبراطورية”. وجاء هذا النوع من التحديد للمكانة والقيم الذاتية إلى الوجود مع وصول المستعمرين الغربيين إلى قارة أمريكا الشمالية، وانعكس بشكل خاص في خطبة ألقاها جون وينثروب، أول حاكم لمستعمرة خليج ماساتشوستس.

قبل وصوله إلى المستعمرات في عام 1630، أصدر زعيم المهاجرين البروتستانتيين إعلانا قال فيه: “سنصبح كمدينة على تلة، وأعين الجميع متجهة نحونا… وستجري حكايتنا وأقوالنا على الألسنة في العالم بأسره”. وقد ردد هذه العبارة العديد من الأمريكيين على مدى أكثر من 240 عام، وهو ما سمح بأن يتطور لديهم تدريجيا الوعي القومي بأن الأمريكيين “شعب الله المختار”، وقناعة بممارسة حق الغزو باسم الحضارة على ما يعتبرونها “أمما متخلفة”. وعلى حد تعبير إريك هوبزسباوم، أستاذ تاريخ العالم الحديث، فإن الاعتقاد الأساسي الذي حمل في طياته معانٍ ضمنية مسيانية هو الذي جعل الولايات المتحدة توسعية منذ البداية، مع أول قرار اتخذته بأن تصبح عملاقا على هذه القارة، وانتشار سكانها في نهاية المطاف بجميع أرجاء القارة.

ومنذ ذلك الحين، منحت الحجتان البارزتان المتمثلتان في “القدر المحتوم” و “الاستثنائية الأمريكية” الولايات المتحدة ما يسمى بـ”الشرعية” و”القدسية” في توسعها العسكري وهيمنتها العسكرية.

طرح عبارة “القدر المحتوم” كاتب العمود الأمريكي جون أوسوليفان في عام 1845. ويعني أن الله أمر الولايات المتحدة بتوسيع أراضيها ومجال نفوذها في قارة أمريكا الشمالية وخارجها، ونشر نظامها وقيمها. يعتقد المؤرخون أن قيام الولايات المتحدة بشراء لويزيانا من فرنسا في عام 1803 أضاف الجوهر الحقيقي لتوسيع الأراضي وبناء إمبراطورية على أساس الإيمان بـ”القدر المحتوم”. وقبل أن تبدأ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حرب عام 1812، اتجه صقور الحرب في الولايات المتحدة، الذين أيدوا التوسع باستخدام القوة، إلى إطلاق مفهوم “القدر المحتوم” كقوة سياسية لأول مرة.

ومن تكساس إلى هاواي، أصبح “القدر المحتوم” هو الأساس والذريعة بالنسبة للولايات المتحدة لاستخدام الوسائل العسكرية لتوسيع أراضيها واضطهاد السكان الأصليين. إنه يشير إلى الأنانية والعنصرية. ومع تطور تاريخ العالم والتغيرات في القوة الوطنية للولايات المتحدة، أصبح “القدر المحتوم” أحد الجذور الأيديولوجية للبلاد في كفاحها من أجل الهيمنة العالمية، وتصدير القيم، والتدخل العسكري الأجنبي منذ القرن العشرين.

يرى مفهوم “الاستثنائية الأمريكية” أن الولايات المتحدة دولة فريدة من نوعها في تاريخ البشرية وتمثل اتجاه التقدم الحضاري. فقد أعلن المفكر البريطاني الأمريكي توماس بين في كتابه ((المنطق السليم)) قائلا “… من الواضح أنهما ينتميان إلى أنظمة مختلفة: إنجلترا إلى أوروبا، وأمريكا إلى ذاتها”، وهو ما يُنظر إليه على أنه مظهر مبكر من مظاهر “الاستثنائية الأمريكية”. ومن هذا المنطلق، يهدف التوسع الأمريكي إلى تحطيم النظام القديم وإقامة ما يسمى بـ”العالم الجديد”. وقد كانت الاستثنائية هذه بمثابة قوة دافعة وذريعة لفكر أمريكا الإمبريالي وسياستها التوسعية على وجه الخصوص. وأصبحت أحد جذور السياسة الخارجية الأمريكية وعملت أيضا على تبييض فكرة مفادها أن الولايات المتحدة، كدولة مهيمنة، أفضل وأكثر تحضرا من الإمبراطوريات القديمة. وقال نيال فيرغسون، المؤرخ في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة: “بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يصرون على ‘الاستثنائية’ الأمريكية، فإن رد الباحثين في تاريخ الإمبراطوريات لا يمكن أن يكون سوى أن الولايات المتحدة استثنائية شأنها شأن جميع الإمبراطوريات الـ69 الأخرى”.

* نظرة إمبراطورية للعالم: من “نظرية القوة البحرية” إلى “نظرية استقرار الهيمنة

في مسار توسعها العالمي وبناء هيمنتها العسكرية العالمية، طورت الولايات المتحدة تدريجيا نظاما فكريا خاصا بها، يُستخدم كغطاء نظري لتعزيز هيمنتها العسكرية.

فقد غيرت الحرب الإسبانية الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر بشكل عميق مكانة أمريكا في العالم. قبل اندلاع الحرب، كانت الأصوات في الولايات المتحدة المؤيدة للتوسع الخارجي قوية، وظهرت أيضا “نظريات” تدعو إلى التوسع. من بين هذه النظريات، لم تقم نظرية “القوة البحرية” لألفريد ثاير ماهان بتلبية الاحتياجات السياسية لنصير التوسعية ثيودور روزفلت في ذلك الوقت فحسب، بل أصبحت أيضا داعما لتطوير البحرية الأمريكية. وكان لـ”نظرية القوة البحرية” تأثير عميق على التطور العسكري والهيمنة العسكرية للولايات المتحدة. فانتقلت من الاستيلاء على قناة بنما والسيطرة على البحر الكاريبي إلى تشكيل “الأسطول الأبيض العظيم”، والتوجه نحو الشرق الأقصى والمحيط الهادئ، وامتلاك قواعد بحرية في جميع أنحاء العالم. وهكذا، سيطرت الولايات المتحدة تدريجياً على المحيطات.

في بداية القرن العشرين، كان لتكوين العلاقات الدولية وتطور النظريات ذات الصلة تأثير كبير على السياسة الخارجية الأمريكية. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة قوة عظمى، وهو ما تزامن مع نمو ونضج وتطور نظرية العلاقات الدولية. وكانت الولايات المتحدة “مركز الأبحاث” لهذه النظرية، وقدمت مدارسها النظرية مثل الواقعية والليبرالية الأساس والمبادئ التوجيهية للولايات المتحدة في سعيها للحفاظ على الهيمنة وكذلك تدخلها العسكري في الخارج.

تتمحور المدرسة الواقعية حول سياسات القوة، ومن بين عناصر هذه المدرسة، تعد الواقعية الجديدة هي النمط المهم، حيث تقول إن المجتمع الدولي يعيش في حالة من الفوضى، والبقاء والأمن هما الأولويات الأساسية للدولة، والقوة العسكرية هي العنصر الأول لسلطة الدولة. وتؤمن الواقعية الهجومية بأنه كلما تفوقت دولة ما عسكريا على الدول الأخرى، كان ذلك أكثر أمانا لها. وتأمل كل دولة في أن تصبح الدولة ذات القوة العسكرية الأقوى في النظام الدولي، أما النتيجة المثالية فهي أن تصبح دولة مهيمنة في النظام الدولي حتى يتسنى لها ضمان البقاء.

أما الليبرالية فتؤكد على أن الناس يتمتعون بحقوق غير قابلة للتصرف، وهذا المنطق يسمح لما يسمى بالدول الحرة بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى بذريعة قضايا حقوق الإنسان، وأن أفضل سبيل لحماية حقوق الإنسان في البلدان الأخرى هو تحقيق ما يسمى بـ”الحرية والديمقراطية” فيها، وأن إقامة عالم يتألف من بلدان ديمقراطية هو “السبيل الأمثل” لتحقيق السلام العالمي. إن تشكل هذه النظرية وتطورها أعطى للولايات المتحدة دافعا وحافزا كبيرين للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وإحداث تغييرات في النظام بتلك البلدان.

كما أثارت نظرية استقرار الهيمنة ونظرية الاستقرار أحادي القطب ونظرية السلام الديمقراطي اهتماما وجدلا كبيرين في الأوساط الأكاديمية والسياسية. فنظرية استقرار الهيمنة ترى أن وجود القوى المهيمنة يمكن أن يجلب السلام والاستقرار النسبيين للنظام الدولي، بينما “يقود التراجع النسبي للقوة الوطنية للولايات المتحدة وضبط النفس في استخدام القوة إلى حقبة من التعايش غير المستقر بين القوى العظمى”.

أما نظرية الاستقرار أحادي القطب فهي موروثة ومطورة عن نظرية الاستقرار المهيمن، وتعتبر أن عالم ما بعد الحرب الباردة هو نظام أحادي القطب مستقر تقوده الولايات المتحدة، وأن النظام أحادي القطب يمكن أن يجلب السلام الدائم. إن “عدم فعل الكثير يمثل خطرا أكبر من فعل الكثير… بالنظر إلى توزيع القوة، فإن الدافع الأمريكي من وراء التدخل مفهوم. ففي كثير من الحالات، كان تدخل الولايات المتحدة مدفوعا بالطلب، وهو ما يمكن أن يتوقعه المرء في نظام لديه قائد واحد واضح”. هذه النظرية هي انعكاس لوضع الولايات المتحدة في العالم وتباين القوى الدولية بعد الحرب الباردة، وتفسير نظري للتدخلات الخارجية التي تقوم بها الولايات المتحدة.

بالإضافة إلى ذلك، تعد نظرية “السلام الديمقراطي” أيضا أحد الأسس المهمة بالنسبة للولايات المتحدة لكي تسعى إلى الهيمنة العسكرية تحت غطاء الديمقراطية بعد نهاية الحرب الباردة. ويقوم محور هذه النظرية على الفرضية الأساسية التي تقول إن الدول الديمقراطية نادرا ما تشن (أو لا تشن على الإطلاق) حروبا ضد بعضها البعض، وبالتالي فإن تعزيز الديمقراطية من شأنه أن يعزز من السلام والاستقرار في العالم. وإن توسع الناتو شرقا الذي بدأ في التسعينيات، والضربات الجوية التي شنها الناتو بقيادة الولايات المتحدة على يوغوسلافيا عام 1999 بزعم أن “حقوق الإنسان فوق السيادة”، والإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي بالقوة في عام 2011 باسم “المسؤولية عن الحماية”، وغيرها من العمليات العسكرية الأخرى هي كلها تجسيد “للقيم الليبرالية والديمقراطية” الأمريكية.

في الواقع، لا يمكن لأي من هذه النظريات أن تصمد أمام اختبار التاريخ. بغض النظر عن كيفية صياغة هذه النظريات، فإنها جميعا تدافع عن الهيمنة والمصالح العسكرية الأمريكية وتخدمها. وفي جوهرها تقبع الأفكار الإمبريالية الأمريكية المبنية على النزعة العسكرية والتوسع والتدخل والتبييض الأخلاقي. وسيستمر هذا الفكر في ممارسة تأثير عميق على مسارها نحو تعزيز الهيمنة العسكرية.

1.3 الدوافع الأساسية للهيمنة العسكرية الأمريكية

يمكن النظر إلى سعي الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الهيمنة العسكرية وتوسيعها من منظور يتألف من ثلاثة دوافع أساسية – المصالح والاستراتيجية والسياسة الداخلية.

* المصالح: طبيعة توسّع رأس المال

استنادا إلى تجربة اليونان القديمة، قال المؤرخ اليوناني ثوسيديدس إن الروابط الوحيدة الموثوقة سواء بين الأفراد أو الدول هي تلك التي تتعلق بالمصالح المشتركة. حتى أن جورج واشنطن، مؤسس الولايات المتحدة ورئيسها الأول، أسس هذا المبدأ كمبدأ عام للحكومة: أي أنه بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، المصالح تمثل المبدأ الحاكم.

تؤمن الماركسية بأن الاقتصاد هو أساس السياسة، والسياسة هي انعكاس للاقتصاد. ووفقا للنظرية الماركسية، لا يمكن للمجتمعات الرأسمالية أن تجد في داخلها سوقا مناسبة لسلعها ومكانا مناسبا لاستثمار رأس مالها، وبالتالي فهي تميل إلى استعباد المناطق غير الرأسمالية وحتى الرأسمالية، من أجل إيجاد أسواق للمنتجات الفائضة وفرص استثمار لفائض رأس المال.

إن الهيمنة العسكرية الأمريكية كظاهرة سياسية هي نتاج النظام الاقتصادي الذي تعتمد عليه، أي الرأسمالية. ويتوافق مسار هيمنتها إلى حد كبير مع مسار توسع رأس المال: فبعد حصولها على الاستقلال، دفعت الولايات المتحدة حدودها غربا وجنوبا، وسرقت الأراضي والموارد، وحصلت على سوق محلية واسعة، وأكملت التصنيع والتوسع الحضري والميكنة الزراعية، الأمر الذي وفر ظروفا مواتية لها لكي تصبح قوة رأسمالية. لقد وضعت نصف الكرة الغربي تحت نفوذها بـ”عقيدة مونرو” واحتلت “الدول الذهبية” الغنية بالموارد على أطراف الإمبراطورية. في عام 1898، اندلعت الحرب الإسبانية الأمريكية، وتم تقسيم المستعمرات من جديد. اكتسبت الولايات المتحدة سيطرة تجارية على المحيط الهادئ وجزره وأراضيه الساحلية. ومع اتخاذها “سياسة الباب المفتوح” في عام 1899 كرمز، تنافست الولايات المتحدة مع أوروبا على المصالح في آسيا. ثم وضعت، خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، السوق العالمية وشريان الحياة للاقتصاد بين يديها. ومن أجل حماية الموارد الاستراتيجية اللازمة لهيمنتها العسكرية، سيطرت على مناطق تذخر بموارد مثل النفط والمعادن، وخاصة منطقة الشرق الأوسط الغنية باحتياطيات الطاقة.

فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك: لقد حرضت على استقلال بنما، ومن ثم استولت على حق حفر قناة بنما وحق استئجارها الدائم. وساعدت في إسقاط الحكومة المنتخبة ديمقراطيا لرئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، وهو ما ساعد على توسع شركاتها النفطية في الشرق الأوسط. ومع وجودها العسكري طويل الأمد في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر والبحرين وغيرها من دول الشرق الأوسط، شنت حرب الخليج وحرب العراق للتعامل مع الدول “المارقة”، وأنشأت النظام في صناعة النفط، وعززت أمن الطاقة لديها. ونشرت قوات في سوريا بشكل غير قانوني للحصول على فرص للسيطرة على آبار النفط والغاز ومناطق إنتاج الحبوب الرئيسية في سوريا. وأرسلت طائرات محمولة على متن سفن بل وحاملات طائرات للقيام بدوريات في مضيق هرمز، من أجل خنق قناة نقل الطاقة المهمة في العالم.

ترى الولايات المتحدة أن أي بلد مهيمن يجب أن يسيطر على المواد الخام ومصادر رأس المال والأسواق، وأن يكسب ميزة تنافسية في الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية. وأن الوسائل العسكرية هي أسهل الطرق للحصول على الموارد والأسواق، “لأن الغزو يمكن أن يساعد في زيادة القوى العاملة والمواد التي يمكن استغلالها في المنافسة المستقبلية مع الدول الكبيرة الأخرى”.

* الاستراتيجية: السعي إلى تحقيق القوة المطلقة والأمن المطلق

في النظام العالمي الذي تتصوره الولايات المتحدة، تعتبر نفسها في مركز الكون المتداخل. في هذا الكون المتداخل، تمارس القوة من خلال المساومة المستمرة والحوار والتواصل والسعي لإبرام اتفاق رسمي، على الرغم من أن هذه القوة تنبع في نهاية المطاف من مصدر واحد — وهو واشنطن، حيث تُمارس الألعاب وفقا للقواعد الوطنية الأمريكية.

من وجهة نظر الحكام الأمريكيين، تشكل الهيمنة العسكرية أهمية كبيرة في سعيهم إلى اكتساب القوة المطلقة في مختلف أنحاء العالم، وتوسيع القوة يمكن أن يؤدي بدوره إلى تغذية هيمنتهم العسكرية. ووفقا لما قاله توماس بارنيت، كبير مستشاري وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في عهد إدارة بوش، فإن توسع الهيكل الأمني للولايات المتحدة بدءا من عام 2001 حولها إلى “وحش عسكري ضخم”، تتمثل وظيفته العالمية الرئيسية في تولي المسؤولية عن السياسة العالمية والاقتصاد وحماية “النواة” الأمريكية من خلال “تصدير الأمن” ومعاقبة الأجزاء الجامحة والمضطربة من مناطق ما بعد حقبة الاستعمار.

إن الهيكل الأمني الذي تسعى إليه الولايات المتحدة، شأنه شأن ذلك الذي سعت إليه العديد من الإمبراطوريات في التاريخ، هو رمز للتوسع المفرط. فالخبراء الإستراتيجيون الأمريكيون يرون أنه لن يتسنى الحفاظ على الأمن القومي إلا من خلال التوسع، وأن التهديدات من شأنها أن تدفع البلدان الأخرى إلى الخضوع. ولقد تمسكت الولايات المتحدة بفكرة تحقيق الأمن من خلال التوسع على طريقها نحو الهيمنة العسكرية.

مع عدم وجود دولة قادرة أو مستعدة لتحدي الهيمنة الأمريكية في العالم، فإن توسعها العسكري مستمر. وهنا سوف نأخذ توسع الناتو شرقا كمثال على ذلك. إن الناتو، باعتباره نتاجا للحرب الباردة، كان لا بد وأن يختفي مع نهاية الحرب. ولكن من أجل الحفاظ على هيمنتها العالمية والسعي لتحقيق الأمن المطلق، قادت الولايات المتحدة خمس عمليات توسع للناتو شرقا، وزادت عدد دوله الأعضاء من 16 إلى 30 دولة. لم تتوقف وتيرة التوسع قط، وهناك خطط توسع جديدة جارية الآن. بل لقد وسع نفوذه إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ من أجل تعزيز فكرة “عولمة الناتو”. وتشير البيانات إلى أن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة شكّل 38 في المائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي في عام 2021، وتجاوز مجموع الإنفاق العسكري للدول الأخرى التي تحتل المراكز العشرة الأولى في هذا الصدد. وشكّل الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو معا 55 في المائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وسترتفع النسبة إلى 61 في المائة إذا تم ضم حلفاء أمريكا في المحيط الهادئ، وهم أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.

إن السعي إلى تحقيق الأمن المطلق والاقصاء السياسي والاحتواء العسكري ضد طرف معين لن يساعد في إنشاء إطار أمني، بل قد يكون سببا في تعقيد الوضع الأمني والوقوع في مزيد من الاضطرابات.

* التلاعب بالسياسة الداخلية: المجمع العسكري-الصناعي

قال كارل فون كلاوزفيتز عن العلاقة بين الجيش والسياسة في كتابه ((عن الحرب)) إن “الحرب ليست سوى استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى”.

إن للتوسع العسكري الأمريكي والهيمنة العسكرية الأمريكية سوقا سياسية فريدة من نوعها. فمختلف القوى وجماعات المصالح في السوق السياسية تؤثر بدورها على الهيمنة العسكرية الأمريكية. والمجمع العسكري الصناعي، باعتباره جزءا من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، اختطف السياسة الأمريكية ودفع “نظام العجلة الحربية” الأمريكي إلى الأمام.

كان الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور قد اقترح عبارة “المجمع الصناعي العسكري” في “خطاب الوداع” في 17 يناير عام 1961. وهي تشير إلى الزواج بين المنظمة العسكرية القوية وصناعة الأسلحة في الولايات المتحدة. ويضم المجمع الصناعي العسكري الآن بشكل أساسي أربعة كيانات: إدارات الأمن العسكري، والمؤسسات ذات الصلة بالدفاع، والكونغرس، والمؤسسات الأكاديمية. كما صار يضم وسائل الإعلام ومنظمات الضغط وغير ذلك من الوحدات.

إنه تحالف ضخم من جماعات المصالح الفائقة. لكل منها مصالح متكاملة وتُشكل معا علاقة شاملة تقوم على الاعتماد المتبادل والتعاون. إن لديهم احتياج كبير إلى تعزيز الهيمنة العسكرية الأمريكية، وهم قادرون على ممارسة نفوذ سياسي ضخم وتقاسم ثمار الهيمنة. في مارس 2022، كتب فرانكلين سبيني، المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية، يقول إنه على مدى السنوات الثلاثين الماضية، تواطأ المجمع الصناعي العسكري الأمريكي مع وسائل الإعلام الأمريكية ومراكز الفكر والأوساط الأكاديمية ووكالات الاستخبارات. وسوف يكسب كل فرد في سلسلة المصالح هذه الكثير من المال من الصراع بين روسيا وأوكرانيا.

الباب الثاني ــ ممارسات ووسائل الولايات المتحدة للحفاظ على الهيمنة العسكرية

في المقال الذي كتبه عام 1941 وأعلن فيها عن مجيء القرن “الأمريكي”، قال هنري لوس، وهو ناشر أمريكي وأحد مؤسسسي مجلة ((تايم))، إنه من الضروري “أن نمارس على العالم التأثير الكامل لنفوذنا، للأغراض التي نراها مناسبة وباستخدام الوسائل التي نراها مناسبة”.

إن التفوق العسكري يتوقف على السيطرة الدائمة. فمن أجل الحفاظ على هيمنتها العسكرية في جميع أنحاء العالم، لم تمارس الولايات المتحدة فقط السيطرة المباشرة عبر وسائل صريحة مثل شن الحروب أو الانخراط فيها وإنشاء شبكات من القواعد العسكرية العالمية، بل استخدمت أيضا وسائل ضمنية مثل أنظمة التحالف والقواعد والآليات لممارسة السيطرة غير المباشرة. كما طورت نماذج تدخل جديدة وتكنولوجيا عسكرية جديدة ومفاهيم عسكرية جديدة وفقا للوضع الجديد، للسيطرة على أي منافس محتمل ومنعه من أن يصبح قوة تنافس الولايات المتحدة أو تتحدى سيادتها.

2.1 السيطرة الصريحة: الحروب والقواعد العسكرية

* الحروب والعمليات العسكرية هي أكثر الوسائل المباشرة التي تلجأ إليها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العسكرية.

“لقد أصبحت الحرب جزءا لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد. فالولايات المتحدة ليست مشاركا طويل الأمد في الحروب منذ تأسيسها بقدر ما هي نتاج للحروب. فالحروب التي خاضتها الولايات المتحدة جعلت البلاد على ما هي عليه اليوم، وسوف تُشكل مستقبلها”، هكذا قال المؤرخ الفرنسي توماس رابينو في وصفه للعلاقة “التي لا تنفصم” بين الولايات المتحدة والحرب.

لقد تشكلت في خضم الحرب، وتتوسع خلال الحرب، وتفرض هيمنتها أثناء الحرب. ويمكن أن يُعزى صعود الولايات المتحدة إلى قمة القوة العالمية على مدى السنوات الـ240 الماضية أو نحو ذلك إلى الحروب التي لا نهاية لها بما في ذلك حرب الاستقلال الأمريكية، والحرب الهندية، والحرب المكسيكية الأمريكية، والحرب الأهلية، والحرب الإسبانية الأمريكية، والحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، وحرب كوسوفو، وحرب أفغانستان وحرب العراق..إلخ. لقد انطلقت العجلة الحربية للهيمنة الأمريكية في جميع أنحاء العالم.

من خلال الحروب، وسّعت الولايات المتحدة أراضيها واستولت على مواقع إستراتيجية وقامت بتمديد نطاق نفوذها. فقد زادت مساحة أراضي الولايات المتحدة بواقع أكثر من 10 أضعاف من حوالي 800 ألف كيلومتر مربع في بداية تأسيسها إلى حوالي 9.37 مليون كيلومتر مربع حاليا. ومن خلال التدخلات العسكرية والانقلابات والحروب بالوكالة، تتعامل الولايات المتحدة مع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي على أنها “الفناء الخلفي” لها، وتمارس السيطرة الجيوسياسية على الشرق الأوسط ودول أوراسية أخرى.

من خلال الحروب، احتلت الولايات المتحدة خطوط النقل البحري والمناطق الحيوية للموارد. وقامت الولايات المتحدة بضم العديد من الجزر في المحيط الهادئ مثل هاواي وجزر ويك واستعمرت الفلبين، ودفعت بالقوة عملية بناء قناة بنما، وقسمت مصالحها في الصين مع القوى الإمبريالية الأخرى، ونشرت قواتها في أفريقيا وسيطرت على الموارد والمواد الحيوية من خلال العمليات العسكرية.

من خلال الحروب، وحدت الولايات المتحدة حلفاءها وقضت على المنشقين. على سبيل المثال، بعد هجمات 11 سبتمبر، شنت الولايات المتحدة حروبا أو عمليات عسكرية في 85 دولة حول العالم تحت شعار “مكافحة الإرهاب”. وتعمل وكالة الأمن القومي الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية وغيرهما من الوكالات باستمرار على “خلق” أعداء، والإطاحة بحكومات دول أخرى من خلال عمليات سرية وغير شرعية، واغتيال القادة الأجانب الذين يعارضون الولايات المتحدة.

إن الحروب اللانهائية للدفاع عن هيمنتها وتعزيزها، بما في ذلك الحروب قصيرة الأمد والحروب طويلة الأمد والحروب العالمية والحرب الباردة والحروب السرية والحروب بالوكالة وحروب مكافحة الإرهاب، تحول الولايات المتحدة إلى دولة إسبرطية وتجرها إلى حالة حرب أبدية.

* القواعد العسكرية المنتشرة عالميًا تُشكل المراسي الاستراتيجية للولايات المتحدة للسيطرة على العالم.

تعد القواعد العسكرية بمثابة الحدود بالنسبة للولايات المتحدة لفرض الردع وتحقيق التدخل العسكري. فمع اتخاذها القواعد العسكرية كمراس، تمارس الولايات المتحدة هيمنتها العسكرية في جميع أنحاء العالم من القطب الشمالي إلى رأس الرجاء الصالح، ومن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ.

فقد زاد عدد القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية. في سبتمبر 1940، قدمت الولايات المتحدة 50 مدمرة تعود للحرب العالمية الأولى إلى بريطانيا، حليفتها التي كانت على حافة الإفلاس، مقابل الحصول على حق السيطرة على القواعد البحرية والجوية في المستعمرات البريطانية. وهذا يعكس طموح الولايات المتحدة في تعزيز وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم. وفي عامي 1943 و1944، وضع المخططون العسكريون الأمريكيون خططا لإنشاء نظام من القواعد الخارجية يفترض مسبقا أن سلطة الهيمنة الأمريكية ستنبسط عبر كل من المحيطين الأطلسي والهادئ. وخلال الحرب العالمية الثانية، قام الجيش الأمريكي ببناء واحتلال حوالي ألفي قاعدة حول العالم، تضمنت حوالي 30 ألف منشأة عسكرية.

بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج إلى “حدود إستراتيجية” آخذة في الامتداد بشكل مستمر، ومعها باتت مساحات كبيرة تحت “السيادة الفعلية” للولايات المتحدة. خلال الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة بتطويق واحتواء الاتحاد السوفيتي مستخدمة في ذلك عدد كبير من القوات والقواعد العسكرية المتواجدة في أقرب مكان ممكن من هذا البلد. وبعد نهاية الحرب الباردة، ظل الساسة الأمريكيون يرون أن القواعد العسكرية الخارجية ضرورية للأمن العالمي للولايات المتحدة. وأبقوا الجيش دائما في حالة استعداد، وشكلوا أيضا حزاما دفاعيا بحريا للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، ادعت إدارة بوش أن القواعد الخارجية “حافظت على السلام”، فيما رأت إدارة أوباما أن “تحريك القواعد إلى الأمام ونشر القوات الأمريكية أمر له مغزى وضروري”.

في أعقاب هجمات 11 سبتمبر عام 2001، أنشأت الولايات المتحدة شبكة قوية من القواعد العسكرية في أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بأكملها باسم “مكافحة الإرهاب”، وبذلك أنشأت جسورا عسكرية وجيواستراتيجية وجيوسياسية وجيواقتصادية خاصة بها في قلب أوراسيا.

بعد بداية القرن الـ21، بدأت الولايات المتحدة في تعديل استراتيجيتها الخاصة بنشر القواعد العسكرية في الخارج، وتحركت لبناء “قواعد عمليات أمامية” أصغر وأكثر مرونة، أو “منصات زنبق الماء”، للحد من اعتماد الجيش الأمريكي على قواعد كبيرة على غرار الحرب الباردة. وشوهدت “منصات زنبق الماء” هذه في كولومبيا وكينيا وتايلاند والعديد من الأماكن الأخرى، وتقع عموما في مناطق لم يكن فيها وجود عسكري يُذكر في الماضي، وبالتالي يسهل الوصول إليها.

على مر السنين، أنشأت الولايات المتحدة شبكة حول العالم من خلال التوقيع على وثائق ثنائية ومتعددة الأطراف مثل اتفاقيات القواعد العسكرية، واتفاقيات وضع القوات، ومعاهدات التعاون الأمني مع بلدان أخرى. ووفقا لدراسة أجراها معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول في عام 2021، تمتلك الولايات المتحدة حاليا 750 قاعدة عسكرية في 80 دولة ومنطقة في الخارج، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف عدد سفاراتها وقنصلياتها وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج. وتكلف هذه القواعد سنويا ما يصل إلى 55 مليار دولار. ومنذ عام 2001 وحده، قدمت القواعد العسكرية الخارجية الدعم للولايات المتحدة في شن حروب أو عمليات عسكرية في 25 دولة على الأقل. ويرى بعض المحللين أن قيام الولايات المتحدة بإنشاء قواعد عسكرية في الخارج وظهور حروب في البلدان التي توجد فيها قواعد أمر يبدو أنه يتبع قانون السبب والنتيجة. فالقواعد العسكرية من المرجح أن تثير حروبا، والحروب تتطلب بدورها إنشاء المزيد من القواعد العسكرية.

2.2 السيطرة الضمنية: التحالفات والقوانين

* نظام التحالف هو الركيزة الرئيسية للحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية.

يشير نظام التحالف إلى علاقة تعاون أمني رسمية أو غير رسمية بين دولتين أو أكثر وبالمقارنة مع الحروب والقواعد العسكرية “الملموسة”، يمكن اعتبار نظام التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة وتهمين عليه بمثابة سيطرة ضمنية للحفاظ على الهيمنة.

ترتكز الهيمنة الأمريكية على نظام دقيق من التحالفات والحلفاء في جميع أنحاء العالم. وإن السبيل الرئيسي أمام الولايات المتحدة لإقامة الهيمنة العسكرية والحفاظ عليها هو تشكيل تحالفات وإنشاء نظام تحالفات تمثل هي نواته. وهذا سيساعد الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية.

انطلاقا من تأسيس الناتو في عام 1949، بدأت الولايات المتحدة في إنشاء تحالفات عسكرية. ثم أقامت تحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين لتشكيل شبكة تحالف عالمية تتمحور حول الولايات المتحدة. وخلال الحرب الباردة، لعب نظام التحالفات العالمي الذي أنشأته دورا رئيسيا في مساعدة الولايات المتحدة على النصر في الحرب الباردة أمام الاتحاد السوفيتي. والحرب الباردة حولت الولايات المتحدة إلى قوة عظمى في العالم الغربي، أو في الواقع رئيس التحالفات. بعد نهاية الحرب الباردة، لم يتم حل هذه التحالفات التي تشكل الولايات المتحدة نواتها، بل تم تعزيزها. على سبيل المثال، من خلال “المفهوم الإستراتيجي الجديد للناتو”، غيرت الولايات المتحدة وظيفته من الدفاع الجماعي إلى التدخل العالمي، وحولته إلى أداة سياسية وعسكرية للحفاظ على هيمنتها. أما في الحروب التي شاركت فيها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة والتعاون العالمي لمكافحة الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر، لعب نظام التحالفات الذي أنشأته الولايات المتحدة دورا كبيرا وعمل كركيزة رئيسية بالنسبة للبلاد للحفاظ على وجودها العسكري وهيمنتها العسكرية على الصعيد العالمي.

قامت الولايات المتحدة ببناء نظام التحالفات العسكري على أساس ثلاثة اعتبارات: أولا، ردع المعارضين عن طريق الحاميات العسكرية، والمناورات العسكرية المشتركة، والمساعدات العسكرية؛ ثانيا، تحقيق تفوق عسكري شامل من خلال التحالفات والحفاظ على أمنها ومصالحها الخاصة؛ ثالثا، احتواء الحلفاء كهدف عرضي. وتشير الإحصاءات إلى أنه في السنة المالية 2011، قادت القيادة الأمريكية في المحيط الهادئ إجمالي 146 مناورة عسكرية شارك فيها الجيش الأمريكي وحلفاؤه؛ وأجرى الناتو بقيادة الولايات المتحدة 88 مناورة عسكرية خلال عام 2020.

بشكل عام، يعد نظام التحالف العسكري الأمريكي نظاما هرميا بين الدول. والولايات المتحدة، بدورها القيادي، تضع جدول الأعمال وتمارس الهيمنة مع الآخرين الخاضعين لظروف غير متماثلة وغير متكافئة.

في السنوات الأخيرة، أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في دفع تحول نظام التحالف الثنائي نحو التطور إلى تحالف ثلاثي ومتعدد الأطراف، فمن التحالف بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والتحالف بين الولايات المتحدة واليابان والفلبين وصولا إلى “الحوار الأمني الرباعي” بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، تشكلت أيضا شراكة أمنية ثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا سعيا منها إلى تعزيز نظام التحالف في مواجهة التهديدات والتحديات المحتملة. مع تحول محور الاهتمام العسكري الإستراتيجي للولايات المتحدة شرقا، أصبحت منطقة المحيطين الهندي والهادئ ذات أهمية متزايدة. وتبذل الولايات المتحدة جهودا كبيرة لبناء “نظام تحالف لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” في محاولة لاستخدام نظام التحالف هذا لدمج الموارد الإستراتيجية الإقليمية، الأمر الذي سيساعد على تحسين كفاءة العمليات الأمريكية في المنطقة. فـ”إستراتيجية منطقة المحيطين الهندي والهادئ” التي وضعتها الولايات المتحدة تهدف حقا إلى الحفاظ على نظام هيمنتها.

* استخدام القواعد والآليات الأمريكية للحفاظ على المكانة المسيطرة للهيمنة العسكرية الأمريكية.

أولا، تطبيق سياسة ضبط الصادرات.

تعد تكنولوجياتها العسكرية الرائدة عالميا أساسا مهما لكي يحتل الجيش الأمريكي مكانة مسيطرة. من ناحية، يُعزى ذلك إلى قدرات البحث العلمي الممتازة والصناعة التحويلية القوية في الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، فإنه يتعلق بمختلف إجراءات ضبط الصادرات التي طبقتها الولايات المتحدة. فهذه الإجراءات تعد أدوات مهمة لتوسيع التفوق العسكري والسعي للهيمنة العسكرية. خلال الحرب الباردة، لعبت سياسات ضبط الصادرات التي اتبعها الغرب دورا مساعدا في عزل الاتحاد السوفيتي واحتوائه والإطاحة به في النهاية.

يعود تاريخ سياسة ضبط الصادرات التي انتهجتها الولايات المتحدة لأكثر من قرن من الزمان، ويمكن أن يعود تاريخها إلى قانون التجارة مع العدو لعام 1917. وتم تعزيزها خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، بهدف الحفاظ على التفوق التكنولوجي العسكري على خصومها. وفيما يلي بعض هذه الممارسات: تم الرجوع إلى قوانين وأنظمة مثل “لوائح إدارة الصادرات” و”قانون مراقبة تصدير الأسلحة” من أجل إنشاء نظم لمراقبة الصادرات العسكرية والصادرات ذات الاستخدام المزدوج. وتم إصدار تشريعات في مجالات محددة، تشمل قانون الطاقة الذرية وقانون منع انتشار الأسلحة النووية. وتم إنشاء آليات متعددة الأطراف أو تم دفعها إلى الأمام مثل “اللجنة التنسيقية لضوابط التصدير المتعددة الأطراف”، و”نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ”، و”ترتيب واسينار بشأن ضوابط تصدير الأسلحة التقليدية والسلع والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج”.

إن وجود هذه القواعد والآليات الدولية يخدم بشكل أساسي المصالح الأمنية للولايات المتحدة.

ولكي تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها، فإنها على استعداد لقمع ومعاقبة حلفائها، كما تبين في حادثة توشيبا. خلال الثمانينيات، قامت شركة توشيبا المحدودة للماكينات في اليابان بتصدير ماكينات “سي إن سي” ذات 9 محاور إلى الاتحاد السوفيتي، وهو عمل اعتبرته الولايات المتحدة تهديدا لتفوقها العسكري وأمنها القومي. ونتيجة لذلك، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة توشيبا المحدودة للماكينات واستغلت هذا الحادث للضغط على اليابان فيما يتعلق ببرنامج الجيل الجديد من الطائرات المقاتلة، ما أجبر اليابان في النهاية على تقديم تنازلات للولايات المتحدة. تكشف حادثة توشيبا عن عقلية الهيمنة الأمريكية وسلوكها من بداية هذه الحادثة حتى نهايتها.

ثانيا، ضبط التسلح.

تقول وجهة النظر التقليدية إن اتفاقيات الحد من التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة وُضعت لزيادة الشفافية، والحد من خطر نشوب صراع نووي، وتعزيز الاستقرار الإستراتيجي، ومنع سباق التسلح النووي من الخروج عن نطاق السيطرة، والمساهمة في نهاية المطاف في تحقيق النهاية السلمية للحرب الباردة. ولكن كان الهدف الأساسي للحكومة الأمريكية من السعي للحد من التسلح هو ترسيخ تفوقها التكنولوجي العسكري على الاتحاد السوفيتي والحفاظ عليه.

صرح توماس كونتريمان، القائم بأعمال وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الحد من التسلح والأمن الدولي سابقا، أن “(اتفاقيات الحد من التسلح) هي أداة حيوية يمكن أن تُقيد قدرة الدول الأخرى على العمل ضد مصالحنا، في حين لا تزال تسمح بحرية اتخاذ الإجراءات الضرورية للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائنا المقربين. وبعبارة أخرى، فإن اتفاقات ضبط التسلح ليست تنازلا تقدمه الولايات المتحدة، ولا خدمة تُقدم لدولة أخرى؛ بل تمثل عنصرا أساسيا لأمننا القومي ومساهما فيه.

من خلال استخدام آليات ضبط التسلح بطريقة مرنة، يمكن للولايات المتحدة أن تحقق ثلاث فوائد رئيسية. أولا، يمكنها تخصيص المزيد من الأموال نحو تعزيز القدرات العسكرية في مجالات أخرى. فعلى سبيل المثال، سمحت معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفيتي في عام 1972 للولايات المتحدة بتوفير مليارات الدولارات؛ ثانيا، تتمثل الميزة الأخرى التي تخص الاستفادة من اتفاقات ضبط الأسلحة، مثل المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية، في إجراءات الشفافية والتحقق التي تتيحها. فهي تمكن الولايات المتحدة من جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية عن القدرات العسكرية لخصومها، الأمر الذي يمكن أن يساعد في تخطيطها وإدارتها للقوات النووية بشكل فعال؛ وتتمثل الميزة الثالثة لآليات ضبط التسلح في القدرة على تقييد تقدم الخصوم في المجالات بالغة الأهمية، مع إجبارهم في الوقت نفسه على الدخول في سباق تسلح لا يمكن النصر فيه وذلك في مجالات تتمتع فيها الولايات المتحدة بتفوق. على سبيل المثال، لم تكن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى الموقعة في عام 1987 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تستهدف الصواريخ متوسطة المدى التي تُطلق من البحر أو الجو، لأن الولايات المتحدة كانت تتمتع في هذا الصدد بمزايا كبيرة من حيث التكنولوجيا والجغرافيا والحلفاء مقارنة بالاتحاد السوفيتي.

في فبراير 2021، مددت الحكومة الأمريكية معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الجديدة مع روسيا، والتي تعكس إلى حد كبير اعتبارات “اللعب على نقاط القوة وتجنب نقاط الضعف”. وكان جون وولفستال، الذي شغل من قبل منصب كبير مديري ضبط التسلح ومنع الانتشار النووي في مجلس الأمن القومي خلال عهد إدارة أوباما، قد حذر في عام 2020 من أن روسيا على وشك الانتهاء من دورة التحديث النووي الإستراتيجي. ومن ثم، إذا انتهت مدة سريان المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية، فقد تتخلف الولايات المتحدة عن روسيا من حيث القوات النووية الإستراتيجية بسبب حالة عدم اليقين بشأن برنامج التحديث النووي الأمريكي. لذلك، فإن تمديد المعاهدة من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على الحد من الترسانة النووية الإستراتيجية لروسيا ومراقبتها مع دفع مشاريع التحديث النووي الخاصة بها قدما.

ثالثا، تحريف القانون الدولي وإساءة استخدامه.

لطالما اعتمدت الولايات المتحدة على إستراتيجية تطبيق القانون الدولي بشكل انتقائي عندما يخدم مصالحها بينما تتجاهله عندما لا يقوم بذلك، وهو نهج ثابت للهيمنة الأمريكية. وأبرز مثال على ذلك في المجال العسكري هو تحريف اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تستخدمها للحفاظ على هيمنتها البحرية من خلال تنفيذ إجراءات “حرية الملاحة” استنادا إلى معاييرها الخاصة.

بدءا من عام 1979 أخذت الولايات المتحدة تنفذ ما تسميه عمليات “حرية الملاحة”، والتي تدعي أن المقصود منها هو “حماية التجارة القانونية وقدرة القوات المسلحة الأمريكية على التنقل عالميا”، بيد أن هذه الإجراءات تهدف إلى ضمان قدرتها على نقل قواتها عبر البحار دون قيود. وقال العديد من الباحثين الأمريكيين إن استمرار عمليات “حرية الملاحة” التي تقوم بها الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي هي وسيلة حاسمة يحافظ بها الجيش الأمريكي على وجوده في المنطقة.

وتنشر الولايات المتحدة بتهور، في إطار عمليات “حرية الملاحة” التي تقوم بها، سفنا قتالية كبيرة لتحدي سيادة الدول الساحلية وولايتها على مياهها الإقليمية، ومناطقها الاقتصادية الخالصة، وجزرها الأرخبيلية، ومضائقها. وإن رفض الولايات المتحدة الامتثال لطلبات البلدان الساحلية بضرورة وجود إخطار أو إذن مسبق، ودخولها بشكل تعسفي إلى المياه الإقليمية لدول أخرى يؤكد هيمنتها العسكرية. إن حقيقة أن الولايات المتحدة لم تصدق بعد على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ولكنها لا تزال تحرفها وتستخدمها بشكل انتقائي كوسيلة للحفاظ على هيمنتها البحرية تعكس منطق الهيمنة المتمثل في “القوة تصنع الحق”.

2.3 الأنماط والاتجاهات الجديدة

إن العالم الذي توجد فيه الولايات المتحدة اليوم مختلف تمام الاختلاف عن الماضي. يشهد العالم حاليا اتجاها جديدا: فالبلدان الناشئة تنهض بسرعة، والتكنولوجيا العسكرية للقوى الكبرى تزداد انتشارا تدريجيا، ويتحول ميزان القوى الدولي نحو هيكل متعدد الأقطاب. بيد أنه في مواجهة التغيرات العميقة في المشهد الدولي، تواصل الولايات المتحدة تشبثها بعقلية الهيمنة وتحاول استخدام مختلف الأساليب للحفاظ على هيمنتها العسكرية وتعزيزها.

* نمط جديد للتدخل العسكري

لطالما كان استخدام القوة العسكرية وسيلة مهمة تستخدمها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العسكرية. غير أنه بعد العديد من الحروب التي استنزفت مواردها وأضرت بسمعتها، تراجع الدعم العام داخل الولايات المتحدة للتدخل العسكري في الخارج. ونتيجة لذلك، تراجعت رغبة الحكومة الأمريكية والكونغرس في استخدام القوة العسكرية خارج حدودهما. وعلى هذه الخلفية، اعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، على تقديم قدر كبير من المساعدات العسكرية والدعم الاستخباراتي للتحكم في الوضع دون نشر أفراد علنا للتدخل في الصراع. وقد يشير هذا إلى نمط جديد من التدخلات العسكرية الأمريكية المستقبلية في الخارج.

هذا النمط الجديد من التدخل العسكري يحمل ثلاث خصائص جديدة:

تتمثل الخاصية الأولى في تقديم المساعدة العسكرية بشكل هادف ويمكن تكميلها وتعديلها وفقا للتغيرات في ساحة المعركة. منذ اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة تتجاوز 46 مليار دولار أمريكي لأوكرانيا، وقد تغيرت أنواع الأسلحة المرسلة بناء على تطورات الوضع على الأرض واحتياجات الجيش الأوكراني.

وتتمثل الخاصية الثانية في أن الولايات المتحدة استخدمت التفوق الاستخباري إلى أقصى حد. فقد لعب ما تقدمه الولايات المتحدة من معلومات استخباراتية وتوجيه استخباراتي للجيش الأوكراني دورا حاسما في تعزيز قدرات أوكرانيا القتالية. ووفقا للتقارير، فإن مثل هذا القدر الكبير من المعلومات الاستخباراتية التي تتقاسمها الولايات المتحدة مع أوكرانيا، وهي دولة غير حليفة، لم يسبق له مثيل تقريبا، بل إن وكالات الاستخبارات الأمريكية عدلت 27 سياسة لتبادل المعلومات الاستخباراتية من أجل هذا الغرض.

تتمثل الخاصية الثالثة في أن الولايات المتحدة استخدمت تكتيكات الحرب الهجينة الجديدة. لقد شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها حملة حرب هجينة ضد روسيا، تجمع بين الحرب الاقتصادية والحرب الدبلوماسية والحرب الدعائية. وعلى الرغم من أن الجيش الأمريكي لم يتدخل بشكل مباشر في الصراع، إلا أنه شارك بشكل كامل في هذه الحرب جوهريا. وفي هذا السياق، أشار بعض الباحثين إلى أن الطريقة التي انخرطت بها الولايات المتحدة في هذا الصراع تقدم قواعد ونماذج للتدخلات العسكرية الأمريكية في المستقبل.

* تعديل وتحديث نظام التحالفات

في ظل ضعف التفوق العسكري المطلق للولايات المتحدة وتحولها الإستراتيجي نحو التنافس مع القوى الكبرى، بدأت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة تتجاوز تدريجيا القيود الجغرافية والهيكلية والتكنولوجية في استخدامها لنظام التحالفات العسكري الذي وضعته.

أولا، تشجع الولايات المتحدة حلفائها خارج المنطقة على التدخل في الشؤون الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويتجلى ذلك في إدراج الناتو للمسائل الأمنية في المحيطين الهندي والهادئ في رؤيته الإستراتيجية وتوسيع وجوده العسكري في المنطقة. ففي عام 2021، أرسلت مجموعة من الدول بما في ذلك كندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وهولندا 21 سفينة بحرية إلى بحر الصين الجنوبي للمشاركة في مناورات بحرية مشتركة مع الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

ثانيا، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حولت الولايات المتحدة تركيز تحالفها العسكري من الاعتماد بشكل أساسي على تحالف عسكري ثنائي في إطار نموذج “المحور والمحاور” إلى مزيد من النهج الثلاثية ومتعددة الأطراف. فمنذ مجيئها إلى الحكم في عام 2021، عززت إدارة بايدن من أهمية آلية الحوار الأمني الرباعي بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا وأنشأت شراكة أمنية ثلاثية مع المملكة المتحدة وأستراليا. وفي الوقت نفسه، تواصل الولايات المتحدة تعميق مشاركتها في آليات أمنية متعددة الأطراف أصغر مثل الشراكات بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والشراكات بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية مع تشجيع الحلفاء بنشاط على تعزيز تعاونهم الأمني.

ثالثا، تقوم الولايات المتحدة بنقل التكنولوجيا العسكرية المتقدمة إلى حلفائها الإقليميين لتعزيز قدراتهم العسكرية. فعلى سبيل المثال، في إطار الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، اتفقت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على مساعدة أستراليا على بناء ما لا يقل عن ثماني غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية. وهذه هي المرة الأولى التي تتقاسم فيها الولايات المتحدة تكنولوجيا الدفع النووي مع دولة أخرى منذ أن فعلت ذلك مع المملكة المتحدة قبل أكثر من 60 عاما. وقد تُشكل هذه الخطوة خطرا على الانتشار النووي لأنها تستغل الثغرات في قانون عدم الانتشار النووي ويمكن أن تقوض الأمن والاستقرار الإقليميين. وتعكف الولايات المتحدة على تحطيم القيود والاتفاقيات السابقة من خلال نقل التكنولوجيات العسكرية والأسلحة الهجومية الأساسية إلى حلفاء إقليميين، وهدفها الأساسي من ذلك هو زيادة قدراتها التنافسية في السباق العسكري بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

* تطبيق التكنولوجيات الجديدة والمفاهيم العملياتية الجديدة

من ناحية، تولي وزارة الدفاع الأمريكية اهتماما كبيرا للأهمية الاستراتيجية للتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة في المنافسة العسكرية المستقبلية. وبالنظر إلى مزايا وخبرات شركات التكنولوجيا التجارية الأمريكية في مجال البحث والتطوير في المجالات ذات الصلة، ما برح البنتاغون يبذل جهودا في السنوات الأخيرة لإقامة علاقات أوثق مع هذه الشركات والعمل بشكل مستمر على دفع أعمال البحث والتطوير الخاصة بالتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة، فضلا عن تطبيقها في الأسلحة والمعدات.

من ناحية أخرى، تعمل الولايات المتحدة على خلق مفاهيم عسكرية للتجاوب مع الظروف الجديدة. على سبيل المثال، هناك “حرب الفسيفساء” التي تُسلط الضوء على المرونة واللامركزية والاستخبارات الشبكية، وهناك مفهوم “القيادة والتحكم المشترك والشامل” الذي يهدف إلى تحقيق الدمج بين أجهزة الاستشعار ومنصات القتال، فضلا عن التمكين من نقل البيانات والمعلومات في الوقت الفعلي. وفي نسخة 2022 من إستراتيجية الدفاع الوطني التي أصدرتها الولايات المتحدة، تم تقديم مفهوم “الردع المتكامل” كأساس لاستراتيجية الدفاع في البلاد. وهذا يتطلب مستوى عاليا من التكامل بين التكنولوجيات الجديدة والمفاهيم العملياتية والقدرات، وإزالة الحدود بين الفروع العسكرية وميادين العمليات المختلفة، وتعزيز التعاون مع الحلفاء. 

الباب الثالث ــ مخاطر الهيمنة العسكرية الأمريكية

في عام 1901، كتب الكاتب الأمريكي مارك توين يقول “أما بالنسبة لإنشاء علم لمقاطعة الفلبين، فهذا أمر يمكن إجراؤه بسهولة. يمكن أن يكون لدينا علم خاص — ولاياتنا تفعل ذلك: يمكننا أن نستخدم علمنا المعتاد، ونقوم بطلاء الخطوط البيضاء باللون الأسود وإحلال النجوم بالجمجمة والعظمتين المتقاطعتين” وذلك لإدانة الأعمال الإمبريالية التي ارتكبتها الولايات المتحدة وشملت شن حرب وارتكاب مجازر في الفلبين.

طورت الولايات المتحدة، التي تأسست من خلال الحروب وإراقة الدماء وتوسعت من خلال التدخل والمكائد، هيمنتها العسكرية سعيا إلى القوة والربح وتحافظ على هيمنتها العسكرية من خلال التسلط والتنمر.

وقد أشار والتر راسل ميد، الباحث البارز في معهد هدسون والأستاذ في كلية بارد، ذات مرة إلى أن “الولايات المتحدة الأمريكية هي أخطر قوة عسكرية في تاريخ العالم”.

أثبتت حقائق عديدة أن الهيمنة العسكرية الأمريكية، التي تعد المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار العالمي، تشكل أكبر تحد للتقدم البشري وتتعارض مع اتجاه السلام والتنمية.

فلقد تسببت أعمال الهيمنة هذه في كوارث إنسانية، وانتهكت سيادة البلدان الأخرى، وداست على القواعد الدولية، وقوضت النظام الدولي، وجلبت مخاطر وأخطار كبيرة للبلدان الأخرى، وحتى للولايات المتحدة نفسها.

3.1 الكوارث الإنسانية

* مذابح بحق المدنيين

روى براندون براينت، الذي سبق له أن عمل مشغل طائرات بدون طيار في الجيش الأمريكي، تجربة شخصية مر بها لوسائل الإعلام في عدة مناسبات، والتي قال فيها إنه بعد إطلاق صاروخ من طراز “هيلفاير” على مبنى يحتوي على الهدف المقصود، رأى طفلا يخرج من المبنى في اللحظة التي أصاب فيها الصاروخ الهدف. وعندما نبه رؤساءه إلى الوضع بعد استعراض شريط الفيديو، قيل له إنه مجرد “كلب”.

وفقا لمكتب الصحافة الاستقصائية ومقره لندن، تسببت الضربات الجوية الأمريكية بطائرات بدون طيار في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن في مقتل ما بين 910 و2200 مدني، من بينهم ما بين 283 إلى 454 طفلا، في الفترة من فبراير 2004 إلى فبراير 2020.

وكشفت ((ذا إنترسبت))، وهي منظمة إخبارية أمريكية غير ربحية، في عام 2015 أنه خلال فترة خمسة أشهر من العمليات الأمريكية، لم يكن ما يقرب من 90 في المائة من الأشخاص الذين قتلوا في تلك الضربات الجوية هم المستهدفين.

تواصل الولايات المتحدة انتهاك الحق في الحياة، وهو أبسط حقوق الإنسان، حيث تسببت في كوارث إنسانية لا حصر لها في جميع أنحاء العالم. فقد قضت الحروب الهندية الأمريكية بشكل مباشر على الملايين من الأمريكيين الأصليين؛ وتسببت الحرب الفلبينية الأمريكية في مقتل ما يتراوح بين 200 ألف ومليون فلبيني؛ وأسفرت الحرب الكورية عن مقتل أكثر من 3 ملايين مدني؛ وأدت حرب فيتنام إلى مقتل مليوني مدني؛ وتسببت الحرب في أفغانستان في سقوط أكثر من 100 ألف من الضحايا المدنيين؛ وأسفرت حرب العراق عن مقتل ما يتراوح بين 200 ألف و250 ألف مدني … ووفقا لمشروع (تكاليف الحرب) الذي تديره جامعة براون، فقد تسببت ما تسمى بـ”الحرب على الإرهاب” التي شنتها واشنطن منذ عام 2001 في مقتل نحو 929 ألف شخص، من بينهم 387 ألف مدني، ونزوح 38 مليون شخص حتى سبتمبر من عام 2021.

* الدوس على كرامة الإنسان

إن الفضائح التي ترد تقارير متواترة عنها بشأن وقوع انتهاكات منهجية بحق السجناء على يد الجيش الأمريكي في السنوات الأخيرة هي دليل على الاستخفاف الصارخ بحقوق الإنسان والدوس على كرامة الإنسان.

في عام 2009، ذكر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ضمن سياق مكافحة الإرهاب، في تقريره المقدم إلى الدورة الـ10 لمجلس حقوق الإنسان أن الولايات المتحدة قد أنشأت نظاما شاملا للتسليم الاستثنائي، والاحتجاز المطول والسري، والممارسات التي تتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

وأشار المقرر، في تقريره المقدم إلى الدورة الـ64 للجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أن الولايات المتحدة، إلى جانب متعاقديها الخاصين، لجأوا إلى أساليب استجواب ضد المسلمين الذكور المحتجزين في العراق وبلدان أخرى، تشمل على سبيل المثال لا الحصر إجبار المحتجزين على التعري، وتكديس المحتجزين فوق بعضهم البعض وهم عراة، وتهديدهم بالاغتصاب واللواط.

وكشف تقرير صدر عن مشروع (تكاليف الحرب) في بداية عام 2022 أنه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، خططت الولايات المتحدة، تحت ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب”، نظاما من المواقع السوداء في 54 دولة ومنطقة على الأقل بجميع أنحاء العالم. وقد اُحتجز أكثر من 100 ألف شخص في هذه المواقع، بمن بينهم مسلمون ونساء وأطفال.

بدو الحمد هو معتقل عراقي سابق سجنه الجيش الأمريكي بحجة دعمه للإرهاب واحتجزه في سجن أبو غريب الواقع غرب بغداد. وصف الحمد الحياة في السجن بأنها جحيم، وقال إن ما قُدم له من طعام كان بالكاد يسد رمقه، وأشار إلى أن أحد الانتهاكات المروعة العديدة التي ارتكبتها القوات الأمريكية كان الحبس الانفرادي الذي كان يتم فيه سجنه لمدة شهر دون رؤية أي شخص وتعريضه للبرد القارس أو الحرارة الشديدة.

قال الحمد إن “الأمريكيين كانوا يحملون العراقيين على تعذيب بعضهم البعض، حيث أحضروا شرطيا محتجزا، ووضعوه مع المتطرفين. فقام المتطرفون بتعذيبه وكسروا يديه وقدميه وحاولوا قتله وهذا يتجاوز انتهاك حقوق الانسان”.

وبسبب المشاكل النفسية الناجمة عن الاحتجاز الطويل، وصل الحال في بعض الأحيان بالحمد إلى أنه لم يكن قادرا على التعرف على أفراد أسرته.

بالإضافة إلى انتشار الانتهاكات والتعذيب في غوانتانامو، قام الموظفون الأمريكيون بتعذيب السجناء من خلال تدنيس القرآن وانتهاك المعتقدات الإسلامية، بما في ذلك إلقاء القرآن في المراحيض أو تمزيقه أو حرقه تحت ستار البحث عن الأسلحة، وتكليف حارسات بالتجسس على سجناء ذكور عراة في الحمامات، وهو ما أثار احتجاجات جماعية بل وتسبب في انتحار جماعي بين المعتقلين.

* تدمير البيئة الإيكولوجية

تسببت العمليات العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء العالم في أزمات بيئية حادة.

لقد خلف الجيش الأمريكي أكثر من 350 ألف طن من القنابل المتفجرة والألغام الأرضية في فيتنام، وتشير التقديرات إلى أن إزالتها بالكامل ستستغرق 300 سنة أخرى. وقد أدى الاستخدام المكثف لذخائر اليورانيوم المستنفد في قصف الناتو بقيادة الولايات المتحدة لجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان وسرطان الدم بين السكان المحليين، ما تسبب في أضرار جسيمة للبيئة الإيكولوجية المحلية وحتى الأوروبية. وفي الفترة من عام 2002 إلى عام 2016، وقعت ما لا يقل عن 270 حادثة تلوث بيئي في ثلاث قواعد عسكرية أمريكية في أوكيناوا باليابان، ولم يتم إبلاغ الحكومة اليابانية بمعظمها. أما تلوث التربة والمياه الجوفية في القاعدة العسكرية الأمريكية التي أُعيدت إلى كوريا الجنوبية في يونغسان في مايو 2022 فقد تجاوز بكثير المعايير المحددة لمنطقة كهذه مع امتلائهما بالمواد المسرطنة، حيث تجاوز إجمالي حجم الهيدروكربونات البترولية المعايير بواقع 29 ضعفا، فيما تجاوز حجم البنزين والفينول المعايير بواقع 3.4 و 2.8 ضعف على التوالي.

علاوة على ذلك، فإن الجيش الأمريكي هو أكبر مستهلك لطاقة الوقود الأحفوري في العالم، واستهلاكه للوقود خارج زمن الحرب إلى جانب الانبعاثات الكربونية الناتجة عن ذلك يفوق معظم البلدان.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد تدعم لفظيا حماية البيئة والحياد الكربوني، إلا أن أولويات الجيش الأمريكي هي سلامته وقدرته على الفتك. فكل منظومة أسلحة رئيسية، سواء كانت مقاتلات نفاثة أو حاملات طائرات، تنتج انبعاثات كربونية كثيفة. خلاصة القول، لا يمكن لجيش أي دولة أخرى أن يضاهي الدمار الذي أحدثته انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي ولدها الجيش الأمريكي.

وفي هذا الصدد، ذكرت دراسة مشتركة نشرتها جامعة لانكستر وجامعة دورهام في عام 2019 أن “البصمة الكربونية للجيش الأمريكي كبيرة جدا لدرجة أنها تفوق تلك الخاصة بمعظم دول العالم”، مضيفة أن “الجيش الأمريكي الآن هو في المرتبة الـ47 بين الدول الأكثر تسببا في غازات الاحتباس الحراري في العالم، عند النظر في الانبعاثات الناجمة عن استخدام الوقود”.

ووفقا لبيانات صادرة عن معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون، فإنه منذ بدء ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب” في عام 2001، أنتج الجيش الأمريكي أكثر من 1.2 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري.

3.2 المساس بسيادة الدول

في عام 1648، عندما أنهى صلح وستفاليا حرب الثلاثين عاما ووضع الأساس لنظام الدولة القومية الحديثة، تم تأسيس مبدأ السيادة.

لكن استخدام الولايات المتحدة للهيمنة العسكرية من أجل انتهاك مبدأ السيادة صار أمرا شائعا. وإلى جانب الغزوات العسكرية المباشرة التي شنتها ضد بلدان أخرى، أطاحت الولايات المتحدة أيضا بحكومات شرعية، ومارست الولاية القضائية خارج حدودها الإقليمية، وانتهكت المجال الجوي والمياه الإقليمية لبلدان أخرى.

* اتباع نهج التدخلات العسكرية في الخارج

منذ إعلان الاستقلال في عام 1776، انتشر نهج التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج من خلال الغزو المباشر باستخدام القوة في جميع أنحاء العالم.

وكان الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قد أشار ذات مرة إلى الولايات المتحدة على أنها “الدولة الأكثر ولعا بالحرب في تاريخ العالم”، مضيفا بقوله إنها “لم تكن في حالة سلام سوى لمدة 16 عاما فقط منذ تأسيسها كأمة قبل 242 عاما”.

ووفقا لتقرير صادر عن جامعة تافتس بعنوان ((عرض مشروع التدخل العسكري: مجموعة بيانات جديدة حول التدخلات العسكرية الأمريكية، 1776-2019))، أجرت الولايات المتحدة ما يقرب من 400 عملية تدخل عسكري على مستوى العالم بين تلك السنوات، 34 في المائة منها في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، و23 في المائة في شرق آسيا والمحيط الهادئ، و14 في المائة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و13 في المائة في أوروبا وآسيا الوسطى. وفي الوقت الحالي، تتزايد تدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وكذلك أفريقيا جنوب الصحراء.

* الإطاحة بالحكومات الشرعية

بدأت الولايات المتحدة في الإطاحة بالحكومات الشرعية للدول الأخرى بعد وقت قصير من تأسيسها. في حرب طرابلس بين عامي 1801 و1805، شارك القنصل الأمريكي في تونس في التحريض على الإطاحة بحكومة طرابلس بتفويض من الرئيس توماس جيفرسون آنذاك، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها الولايات المتحدة بعملية تغيير للنظام ضد حكومة شرعية في بلد أجنبي.

كما كتبت ليندسي أوروك، أستاذة العلوم السياسية في كلية بوسطن، في كتابها ((تغيير النظام سرا: الحرب الباردة الأمريكية السرية)) تقول إنه في الفترة من عام 1947 إلى عام 1989، أجرت الولايات المتحدة 64 عملية تدخل سرية لتغيير النظام وست عمليات تدخل علنية من هذا القبيل في بلدان أخرى، بصرف النظر عما إذا كانت تلك البلدان أعداء أم حلفاء، وبغض النظر عن الأنظمة السياسية التي تطبقها.

بعد نهاية الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة بعمليات تغيير للنظام في العديد من البلدان، بما في ذلك هايتي وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا وفنزويلا.

وفي عام 2022، أقر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون علنا بأنه ساعد في التخطيط لانقلابات في دول أخرى، في إشارة إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في فنزويلا في عام 2019.

* التمتع بـ”الحصانة القانونية خارج البلاد

من الشائع أن ينتهك الأفراد العسكريون الأمريكيون القوانين المحلية للبلدان التي يتمركزون فيها. ولكن الحكومة الأمريكية حاولت تفادي إخضاع هؤلاء الأفراد العسكريين الأمريكيين للولاية القضائية للحكومات المحلية، الأمر الذي تسبب في انتهاكات خطيرة للسيادة القضائية للدول التي يتمركزون فيها.

وقد أظهرت دراسة أجراها آصف إفرات مؤخرا بعنوان ((مواجهة الضغوط الأمريكية خارج الحدود الإقليمية: القوات الأمريكية في المحاكم الأجنبية خلال الحرب الباردة))، أن القوات الأمريكية في الخارج تورطت في ارتكاب جرائم إلى حد أكبر بكثير مما كان معروفا من قبل، وأشارت الدراسة إلى أنه في البلدان التي تعتمد على الأمن الذي توفره الولايات المتحدة، كانت القوات الأمريكية أقل عرضة للمحاكمة، مع تسجيل أكثر من 360 ألف قضية جنائية تتعلق بأفراد عسكريين أمريكيين وعائلاتهم في الفترة من عام 1954 إلى عام 1970، ولكن لم يُنظر سوى في حوالي ثلث هذه القضايا في محاكم البلدان التي يتمركزون فيها.

وأفاد أحد المنافذ الإعلامية بكوريا الجنوبية في عام 2017 بأن معدل عدم المقاضاة على الجرائم التي ارتكبها الأفراد العسكريون الأمريكيون المتمركزون في كوريا الجنوبية يصل إلى 70.7 في المائة والمعدل بالنسبة لجرائم العنف، بما في ذلك القتل والاغتصاب والسرقة، أعلى من ذلك حيث تصل إلى 81.3 في المائة.

* انتهاك الأجواء والمياه الإقليمية

خلال الحرب الباردة، استغلت الولايات المتحدة تفوقها التكنولوجي لإجراء عمليات استطلاع على ارتفاعات عالية وأنشطة عسكرية أخرى، منتهكة المجال الجوي لبلدان أخرى. في الفترة من يونيو 1956 إلى ديسمبر 1959، استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية طائرات استطلاع تحلق على ارتفاعات عالية من طراز “يو-2” للقيام بأكثر من 250 مهمة استطلاع فوق الأجواء وحول الأطراف في أوروبا والاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط وشرق آسيا لجمع معلومات استخباراتية من الصور والإشارات.

وبعدما أسقط الاتحاد السوفيتي طائرة استطلاع من طراز “يو-2” في مايو 1960، حولت وكالة الاستخبارات المركزية تركيز أنشطتها الاستطلاعية على ارتفاعات عالية إلى أمريكا اللاتينية ودول شرق آسيا، واستمرت أنشطة الاستطلاع في شرق آسيا، بما في ذلك الصين، حتى عام 1974. ومنذ هجمات 11 سبتمبر، شنت الولايات المتحدة، تحت ذريعة ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب”، غارات واسعة النطاق بطائرات بدون طيار في باكستان وبلدان أخرى، منتهكة بذلك السيادة الجوية لهذه البلدان ومتسببة في الوقت نفسه في وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف المدنيين.

من أجل الحفاظ على حريتها في نشر القوات العسكرية في جميع أنحاء العالم، بدأت الولايات المتحدة في تطبيق “حرية الملاحة” في عام 1979 لتهدد وتقوض بذلك سيادة المياه الإقليمية للدول الأخرى.

ووفقا لـ”تقارير حرية الملاحة السنوية”، وهو تقرير سنوي يصدر عن وزارة الدفاع الأمريكية، استخدمت الولايات المتحدة الخيارات العسكرية لتحدي سيادة أو ولاية أكثر من 70 دولة ساحلية ومنطقة على المياه الإقليمية، والمناطق الاقتصادية الخالصة، والجزر الأرخبيلية والمضائق بين عامي 1990 و2021، بما في ذلك حلفاؤها التقليديون مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا والمملكة العربية السعودية.

3.3 تفكيك النظام

أشار ستانلي هوفمان، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، إلى أن النظام العالمي هو نموذج مثالي لإقامة علاقات سلمية بين الأمم. وهو بمثابة شرط هام للتعايش الودي بين الدول ويوفر مجموعة من القواعد للسلوك المعياري، فضلا عن وسيلة فعالة لحل النزاعات والصراعات مع تعزيز التعاون الدولي من أجل التنمية المشتركة.

وقد دأبت الولايات المتحدة، اعتمادا على هيمنتها العسكرية، على رفض الالتزام بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي والأعراف الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية، وانتهكتها عمدا.

أما حظر الاستخدام غير المشروع للقوة أو التهديد باستخدامها، وهو مبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي، فقد ظل أيضا موضع تجاهل من الولايات المتحدة، وهي دولة شنت مرارا وبوقاحة حروبا على بلدان ذات سيادة. وقد أدى إنشاء قوة فضائية مستقلة وتأسيس قيادة فضائية إلى إسراع الولايات المتحدة إلى اختبار الأسلحة الفضائية وإجراء التدريبات العسكرية ذات الصلة، وهو ما يتعارض بشكل خطير مع مفهوم الاستخدام السلمي للفضاء. علاوة على ذلك، أثبتت فضائح سوء معاملة السجناء المنهجية في معتقل خليج غوانتانامو أن الجيش الأمريكي داس على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

في سبتمبر 2022، خلال مؤتمر التفاوض الرسمي للدول الأطراف في اتفاقية الأسلحة البيولوجية الذي عُقد في جنيف بسويسرا، نشر الوفد الروسي سلسلة من الوثائق التي تقول إن الولايات المتحدة انتهكت الاتفاقية. وتحدثت إحدى الوثائق، التي تم الكشف عنها، عن تقنية ذات براءة اختراع، أُطلق عليها اسم “نظام الإطلاق الجوي للبعوض السام”، وتنطوي على استخدام طائرات بدون طيار لنقل عدد كبير من البعوض الحامل لسموم إلى مناطق محددة، ثم إطلاقه في الجو بهدف إصابة فئات معينة من السكان بأمراض قاتلة، وتحقيق “انتشار لأمراض قاتلة بتكلفة منخفضة”، وعرقلة الخصم. وأضافت الوثيقة أنه بمجرد “تعديل القيود القانونية أو إلغائها”، يمكن استخدام هذه التقنية على الفور لأغراض عسكرية لتصبح “أداة” أكثر فتكا من الأسلحة المتقدمة المتاحة حاليا.

تم فتح باب التوقيع على معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية في عام 1972 ودخلت حيز التنفيذ في عام 1975، حيث يبلغ عدد الدول الأطراف فيها حاليا 185 دولة وعدد الدول الموقعة عليها 4 دول. وتعد بمثابة أساس للحوكمة العالمية للأمن البيولوجي.

بيد أن الولايات المتحدة التي تعد إحدى الدول الأطراف في هذه المعاهدة، تقوم منذ فترة طويلة بإجراء تجارب بيولوجية خطيرة في بلدان مثل كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى تجارب على البشر داخل بلادها، بينما تعارض إنشاء آلية تحقق متعددة الأطراف ذات صلة، الأمر الذي أدى إلى توقف المفاوضات بشأن إضافة بروتوكول التحقق إلى المعاهدة حتى الآن.

لقد دأبت الولايات المتحدة على أن تكون انتقائية في نهجها إزاء القوانين والأعراف والمنظمات الدولية، حي تمتثل لها عندما تخدم مصالحها وتنسحب منها عندما لا يتحقق ذلك.

تشير الإحصاءات إلى أنه منذ ثمانينيات القرن الماضي، انسحبت الولايات المتحدة من 17 منظمة أو اتفاقية دولية، بما في ذلك مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، واليونسكو، واتفاقية باريس، وخطة العمل الشاملة المشتركة، ومعاهدة تجارة الأسلحة، ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى، ومعاهدة السماوات المفتوحة.

ومن ناحية أخرى، كانت هناك حالات انسحبت فيها الولايات المتحدة ثم عادت إلى الانضمام إلى هذه المنظمات أو الاتفاقيات، لتنسحب منها مجددا.

وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية الحالية أعلنت أن “أمريكا عادت” وانضمت إلى بعض المنظمات والاتفاقيات الدولية مجددا، إلا أن الولايات المتحدة لم تتخل عن عقيدتها المتمثلة في “أمريكا أولا”. وتواصل الانسحاب من الاتفاقيات التي ترى أنها لا تخدم مصالحها، مثل معاهدة السماوات المفتوحة، أو تقوم بانتهاكها.

ولدى إشارته إلى أن “هذه هي الآن قواعد الطريق غير المكتوبة على كوكبنا. إنها تمثل الاستثنائية الأمريكية الحقيقية”، قال المؤرخ الأمريكي ألفريد ماكوي إن واشنطن ستستمر في انتهاك السيادة الوطنية من خلال القيام بتدخلات سرية وعلنية على غرار الماضي، وستستمر في إصرارها على رفض الاتفاقيات الدولية التي تقيد سلطتها.

3.4 انعكاس التداعيات السلبية على الذات

جلبت الهيمنة العسكرية الأمريكية، بما في ذلك شن الحروب وغزو البلدان الأخرى، الكوارث إلى العالم وألحقت في الوقت نفسه أضرارا جسيمة بالولايات المتحدة نفسها.

أشار المؤرخ الفرنسي توما رابينو في كتابه ((ثقافة الحرب الأمريكية)) إلى أن كل جيل تقريبا في الولايات المتحدة عانى من عواقب الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحروب.

* ضحايا في صفوف المواطنين الأمريكيين

أسفرت الحروب التي شنتها وشاركت فيها الولايات المتحدة عن مقتل العديد من الجنود الأمريكيين.

فوفقا لإحصاءات وزارة الدفاع الأمريكية، قُتل ما يقرب من 36 ألف جندي أمريكي وأصيب أكثر من 100 ألف آخرين في الحرب الكورية. فيما قُتل 58 ألف جندي أمريكي وأصيب أكثر من 150 ألف آخرين في حرب فيتنام.

وكشف مشروع (تكاليف الحرب) أن أكثر من 7 آلاف جندي أمريكي وحوالي 8 آلاف متعاقد في مجال الدفاع لقوا حتفهم في الحروب التي شنتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن قدامى المحاربين الأمريكيين الذين خدموا في العراق وأفغانستان لديهم معدلات أعلى من الانتحار، واضطراب ما بعد الصدمة، وإدمان المخدرات والكحول، والطلاق، وإساءة معاملة الأطفال مقارنة بالناس العاديين. وقد انتحر أكثر من 30 ألف جندي أمريكي في الحروب التي تلت هجمات 11 سبتمبر، وهو رقم أعلى بواقع أربعة أضعاف من عدد الذين قُتلوا في المعارك.

* الثمن الاقتصادي الباهظ

إن المبالغ الطائلة التي تُخصصها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العسكرية تلقي بعبء ثقيل على كاهل دافعي الضرائب الأمريكيين.

بناء على سعر صرف الدولار لعام 2011، بلغ الإنفاق العسكري الأمريكي على حرب فيتنام (1965-1975) 737 مليار دولار أمريكي.، وهو ما كان له تأثير شديد على الاقتصاد الأمريكي، ونتج عنه ارتفاع التضخم وحدوث عجز مالي هائل، أدى في النهاية إلى انهيار نظام بريتون وودز.

فقد أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 5.8 تريليون دولار على الحروب منذ عام 2001. وذكر تقرير إعلامي أمريكي صدر في عام 2019 أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 350 مليار دولار على رعاية وعلاج قدامى المحاربين الذين شاركوا في الحروب بكل من أفغانستان والعراق. وتوقعت الدراسات ضرورة استثمار 2.2 تريليون دولار أخرى في نفس المجال في السنوات الـ30 المقبلة.

إن الإنفاق العسكري الأمريكي الذي تم بدءا من حروب ما بعد هجمات 11 سبتمبر كان كفيلا بتوفير تغطية نفقات الرعاية الصحية حتى مرحلة البلوغ وعامين من التعليم المبكر لـ13 مليون طفل أمريكي يعيشون تحت خط الفقر، ومنح دراسية جامعية لـ28 مليون طالب، وتأمين صحي مدته 20 عاما لمليون من قدامى المحاربين، ورواتب لمدة 10 سنوات لأربعة ملايين عامل في صناعة الطاقة النظيفة.

* من تدهور السمعة إلى العواقب السيئة

إن الجيش الأمريكي لديه سجل من اللجوء إلى الخداع والأكاذيب لتبرير بدء الحروب وتمديدها، من حادثة “خليج تونكين” إلى تزييف وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ومن “وثائق البنتاغون” إلى “وثائق أفغانستان”.

علاوة على ذلك، اعتاد الجيش الأمريكي على إخفاء الحقيقة عندما يتعلق الأمر بمختلف الفظائع التي ارتكبها في الصراعات الخارجية مثل مذبحة “نو غون ري” خلال الحرب الكورية، ومذبحة “ماي لاي” خلال حرب فيتنام، وإساءة معاملة السجناء خلال حرب العراق، والقتل العشوائي للمدنيين الأبرياء بالطائرات بدون طيار خلال ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب”.

ونتيجة لأكاذيب الولايات المتحدة ومؤامراتها المتعاقبة، صارت مصداقيتها آخذة في التآكل.

فقد أقر نيكولاس بيرنز، السفير الأمريكي الحالي لدى الصين والأستاذ في جامعة هارفارد، في عام 2010 بأن الحرب في العراق كانت سوء تقدير إستراتيجي وأكبر ضربة لقوة الولايات المتحدة وهيبتها منذ حرب فيتنام، مضيفا أن سجن أبو غريب وسجن خليج غوانتانامو ألحقا ضررا دائما بسمعة أمريكا بين أكثر من مليار مسلم حول العالم”.

وأوضح استطلاع للرأي نشره مركز بيو للأبحاث في عام 2019 أن السمعة الدولية للولايات المتحدة تراجعت بشكل كبير في الفترة ما بين عامي 2013 و2018، مع ارتفاع نسبة الأجانب الذين يرون أن قوة الولايات المتحدة ونفوذها يشكلان تهديدا خطيرا من 25 في المائة في عام 2013 إلى 45 في المائة في عام 2018.

فقد أدت الهيمنة العسكرية الأمريكية، بما في ذلك شن الحروب وغزو الدول الأخرى، إلى تنامي الجماعات المتطرفة وتقوية شوكتها، وهو ما كان له تداعيات سلبية على الأمن القومي الأمريكي في نهاية المطاف.

تعتبر هجمات 11 سبتمبر في عام 2001 مثالا نموذجيا على ذلك، حيث تسببت في مقتل ما يقرب من 3 آلاف شخص في أسوأ هجوم إرهابي محلي في تاريخ الولايات المتحدة.

وفي أعقاب هذه الهجمات، استندت الولايات المتحدة إلى مصطلح “الحرب على الإرهاب” لكي تبرر تدخلاتها وتمارس هيمنتها العسكرية، وهو ما أدى إلى تطور جماعات متطرفة مثل تنظيم (داعش) وزعزعة الاستقرار في العديد من المناطق.

وفي الوقت نفسه، جاءت هذه الأعمال بنتائج عكسية على الولايات المتحدة نفسها، كما يتضح من الهجوم على القنصلية الأمريكية ببنغازي عام 2012، وتفجير ماراثون بوسطن عام 2013، وهجوم شاحنة مدينة نيويورك عام 2017.

* الانقسام المجتمعي

كما أدت الحروب الخارجية المطولة إلى تفاقم الاضطرابات الداخلية في الولايات المتحدة. خلال حرب فيتنام، تسببت الخسائر والفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي في فيتنام، فضلا عن فرض الحكومة الأمريكية للتجنيد الإلزامي وزيادة الضرائب، في إثارة مشاعر قوية مناهضة للحرب وانعدام الثقة في الحكومة داخل البلاد. ففي مايو 1970، أطلق الحرس الوطني في ولاية أوهايو النار على الطلاب الذين كانوا يحتجون على حرب فيتنام في جامعة ولاية كينت بالولاية، ما أدى إلى مقتل أربعة طلاب وإصابة تسعة آخرين. وكانت هذه المأساة علامة على الانقسامات السياسية والاجتماعية العميقة التي كانت تعيشها الولايات المتحدة خلال حرب فيتنام. وقد قال هاري هالدمان، رئيس موظفي البيت الأبيض آنذاك، إن هذه الحادثة كانت نقطة تحول بالنسبة للرئيس ريتشارد نيكسون آنذاك وبداية فضيحة ووترغيت.

بعد ما يقرب من نصف قرن ومع انتهاك الحريات الدستورية في الولايات المتحدة من خلال التشريعات والأنشطة الاستخباراتية، أدت ما تسمى بـ”الحرب على الإرهاب” بقيادة الولايات المتحدة إلى تآكل الحقوق الاجتماعية والسياسية الأساسية على الصعيد المحلي، فيما زادت عسكرة الشرطة الأمريكية بشكل كبير بعد هجمات 11 سبتمبر. وخلال الحرب على الإرهاب التي استمرت لعقدين من الزمان، حصلت إدارات إنفاذ القانون الأمريكية على كمية كبيرة من الأسلحة ومعدات المراقبة من الجيش، وهو ما أدى إلى تغييرات في الثقافة التنظيمية لأفراد إنفاذ القانون وتدريبهم وتكتيكاتهم، فضلا عن صدع في علاقة الثقة بين أفراد إنفاذ القانون والجمهور، كما لاحظ البعض أن هناك صلة بين حصول ضباط الشرطة الأمريكية على المعدات العسكرية واستخدامهم للقوة.

وعلاوة على ذلك، فقد أشار مشروع (تكاليف الحرب) إلى أن الحكومة الأمريكية قد تستمر في دفع تفاقم حالة عدم المساواة في المجتمع الأمريكي من خلال اقتراض تريليونات الدولارات لدفع تكاليف الحرب مع خفض الضرائب.

يقول ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، إنه لا يمكن تجاهل العلاقة بين “المغامرات الإمبريالية” الأمريكية في الخارج والاضطرابات المحلية. فقد أطلقت الولايات المتحدة، من خلال “حروبها التي لا نهاية لها” في الخارج، سلسلة من القوى السياسية مثل النزعة العسكرية، والسلطة التنفيذية المعززة، وكراهية الأجانب، والنزعة الوطنية الزائفة، والغوغائية، وكلها أمور تتعارض مع الأخلاق المدنية التي تعتمد عليها الديمقراطية السليمة.

خاتمة

لقد تأسست الولايات المتحدة الأمريكية في خضم الحرب، وتوسعت خلال الحرب، واكتسبت الهيمنة أثناء الحرب، وعلى مدى الـ240 عاما الماضية منذ استقلالها، عملت الولايات المتحدة، وأيديولوجيتها الإمبريالية العميقة الجذور، على تحويل نفسها من دولة معزولة واقعة في ركن من أركان أمريكا الشمالية إلى دولة ذات هيمنة عسكرية عالمية، واكتسبت الهيمنة في عالم أحادي القطب من خلال الحروب والتوسعات العسكرية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك، والحرب الإسبانية الأمريكية، والحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة.

هكذا بنت الولايات المتحدة ديمقراطية على النمط الأمريكي أو “ديمقراطية أمريكية” تقوم على الهيمنة والتنمر على البلدان الأخرى.

لم يكن لدى الولايات المتحدة قط قناعة بوضعها المهيمن والمسيطر ولم تدخر جهدا في السعي إلى توسيع نطاق هيمنتها العسكرية. لم تكن أفعالها مدفوعة فقط بطبيعة جشع الرأسمالية إلى التوسع والربح، وإنما أيضا بطموحها وسعيها بجنون العظمة إلى السلطة، فضلا عن التلاعب من خلال السياسات الداخلية وجماعات المصالح.

على مر العصور، تلجأ الولايات المتحدة، من أجل الحفاظ على مكانة الهيمنة العسكرية العالمية التي تملكها، إلى وسائل واضحة مثل شن الحروب أو القيام بتدخلات عسكرية وبناء شبكة قواعد عسكرية عالمية، وإلى وسائل غير واضحة مثل نظام تحالفات تتزعمه وقواعد دولية تهيمن عليها، كما تستخدم نماذج وتقنيات ومفاهيم جديدة في الظروف الجديدة، بهدف منع أي منافس محتمل من تهديد مكانتها المسيطرة.

لقد أثبتت الحقائق أن الهيمنة العسكرية الأمريكية التي تقوم على التنمر والاستبداد تشكل مخاطر جسيمة على العالم وتطرح تحديات غير مسبوقة أمام المجتمع البشري، فهي لا تعزز السلام والأمن، بل تخلق الحروب والكوارث؛ ولا تحقق المساواة والحرية، بل تؤدي إلى العبودية والقمع؛ ولا تتيح التنمية والتعاون، بل تتسبب في صراعات وانقسامات.

إن العالم اليوم يمر بتغيرات عميقة لم يشهدها منذ قرن من الزمان، بينما تواصل الولايات المتحدة توسيع نطاق هيمنتها العسكرية، متسببة في زعزعة استقرار مستقبلنا المشترك والإضرار به.

رابط النص الأصلي للتقرير

https://arabic.cgtn.com/news/2023-09-08/1700121798610481153/index.html

Admin

القرن الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات: مؤسسة بحثية مستقلة، تأسست عام 2020 تقوم على إعداد البحوث والدراسات والتقديرات وأوراق السياسات، وتنظيم الفعاليات العلمية والأكاديمية وتقديم الاستشارات حول التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية في منطقة القرن الأفريقي، وما يرتبط بها من تفاعلات إقليمية ودولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى