السياسة الواقعية للقرن الإفريقيّ: الحرب، المال، وأعمال القوة
“السياسة الواقعية للقرن الإفريقيّ: المال، الحرب وأعمال القوة” هو كتاب صدر الكتاب باللغة الإنجليزية عن مطبعة بوليتي -المملكة المتحدة سنة 2015 في 263 صفحة.
يستند فيه أليكس دي وال إلى خبرته المهنية الممتدّة لأكثر من ثلاثة عقودٍ كباحثٍ ومستشارٍ في البلدان والمنظمات الإقليميّة في القرن الإفريقي. يركّز الكتاب بشكلٍ رئيسيٍّ على فكرة أنّ المال هو القوة الدافعة للسياسة الواقعية في القرن الإفريقيّ. لقد مكّن انخراط دي وال في القرن الافريقي (بصفته باحثًا في المنطقة لمدّة ثلاثة عقودٍ وكممارس أيضًا) من التحقيق عن كثب في تطوّرات المنطقة، لاسيما تلك التّي حصلت في السياقات السياسيّة العالمية لحقبة ما بعد الحرب الباردة. كان عضوًا في فريق الوساطة التابع للاتّحاد الافريقي لدارفور (2005-2006) ومستشارًا أوّل للجنة التنفيذ رفيعة المستوى للاتّحاد الإفريقيّ الخاصّة بالسودان (2009-2012) حيث ساهم في عقد اتفاق سلامٍ شامل. يرى دي وال من خلال تجاربه الطويلة مع الفاعلين السياسيّين الرئيسيّين في المنطقة، وخاصّةً النخب السياسية وضباط الأمن، أنّ السياسة الواقعية في القرن الإفريقيّ يمكن فهمها بشكلٍ أفضل من حيث السوق السياسية التّي تعمل بموجب قانون اقتصاديات التوريد والطلب، مُؤكّدًا بأنّ الفهم الصحيح للسياسات الواقعية للمنطقة هو وحده ما سيمكّن أصحاب المصلحة المحليّين والإقليميّين والدوليّين من حلّ المشكلات متعدّدة الأبعاد في المنطقة.
تتمثّل “اللحظة الفكرية” لهذا العمل في اختراعه منظورًا جديدًا وبديلًا يتحدّى الدوائر الأكاديمية الأرثوذكسية في منطقةٍ تُعتبر موقعًا جيوستراتيجيًا ممتازًا لأكثر مناطق العالم تذبذبًا. يرى دي وال أنّ لهذه القضايا صلةٌ ثانويةٌ بالتقلّبات الإقليمية التّي تُعدُّ في الأساس نتيجةً ثانويةً للفاعلين السياسيّين وتفاعلاتهم في السوق السياسية، في الوقت الذّي تعزو معظم الأعمال السابقة تقلّب المنطقة إلى العنف الطائفيّ والبيئة القاسية وحركات التمرّد. تعتمد اللحظة الاجتماعيّة والسياسيّة للعمل على تقدّمه ونشره في البيئة العالمية لما بعد الحرب الباردة وهجمات 9/11، والأزمة السياسية الحاليّة وانحدار الدول في المنطقة (إثيوبيا والسودان والصومال) مع تشابه الأنماط والتشابك الحاصل في الإعدادات المحليّة والإقليميّة والعالميّة.
يعتمد دي وال من الناحية المنهجية على التحليل النوعيّ للإثنوغرافيا السياسية المعاصرة للمنطقة عبر الاعتماد على العدسة النظرية لنظرية اقتصاد السوق الحرّة. يستخدم دي وال المواد الثانوية والمصادر الأوليّة بشكلٍ أساسيّ من خلال مناقشاته الوثيقة مع الأشخاص الرئيسيّين في المنطقة، بما في ذلك رؤساء الوزراء والرؤساء والمندوبين رفيعي المستوى. يتمثّل الجمهور المستهدف للكتاب في الأكاديميّين، بمعنى أنّه يطرح أسئلةً أكثر مما يُقدّم إجابات، كما يعرض شكوكًا أكثر ممّا يوفّر استنتاجات.
الكلمات المفتاحيّة: السياسة الواقعية، القرن الإفريقيّ، السوق السياسيّ
ملخّصات الفصول:
الفصل الأول
يتناول نظرةً عامّةً عن الإطار النظريّ للسوق السياسيّ، ومبرّرات عمله في سياسات القرن الإفريقي، إذْ يوضّح الفصل الأوّل تراجع الأخلاق الشخصية للفاعلين السياسيّين حينما يرتقي أحدهم من العضوية العادية في المجتمع المحليّ إلى المناصب السياسيّة، وكمطلبٍ للبقاء في السوق السياسية. يجادل الكاتب بأنّ الناس لا حول لهم ولا قوّة على المستوى المحليّ، ولديهم رؤى إنسانية بسيطة في السياسة فحسب. الاتّجاه يتغيّر تمامًا عندما يبدأ المسؤولون في إدارة السياسة الواقعية، رغم أنّ الناس العاديّين يقدّرون النزاهة الشخصية واللياقة الإنسانيّة للسياسيين من أجل صحّة مجتمعهم، فالأخلاق الشخصية أو القسوة ليست هي المهارات التي يحتاجها المرء ليكون رجل أعمالٍ سياسيٍّ ناجحٍ في غمار السياسة الحقيقية بالنسبة إلى النخب السياسيّة وضبّاط الأمن في دول القرن الإفريقي.
يقول دي وال إنّ النخبة السياسية في هذا الجزء من العالم تفترض أنّ الولاءات الإنسانية قابلة للتداول مثل السلع والخدمات في السوق. يمكن للمال شراء الولاءات البشرية في السوق السياسيّة، حيث يميل الأفراد إلى خدمة الآخرين نظير تحصّلهم على مكافأة. يصنّف الكاتب الفاعلين السياسيّين على أنّهم رجال أعمالٍ سياسيين يستخدمون عملات المال والعنف لشراء سلع الولاء في السوق السياسية والحفاظ على بقائهم في المستقبل في بيئات مضطربة.
الفصل الثاني
يتناول عمل السوق السياسيّة كإطارٍ عام ووظائفها في سياسات القرن الإفريقي، إنّه يشكّل تشبيهًا بين القرن الإفريقي كسوق سياسيّ والأسواق كما هو مفهوم في اقتصاد السوق الحرّ. يعمل السياسيون للسعي وراء السلطة والحفاظ عليها في النظام المضطرب جوهريًا والذّي لا يمكن التنبؤ به في القرن الإفريقي تمامًا مثل الشركات في السوق. يجادل دي وال بأنّ جميع الأنظمة السياسيّة تشبه الأسواق، بمعنى أنّه عندما يتمكّن رواد الأعمال من تحقيق الربح من الاقتصاد الضعيف وغير المستقر، يمكن لرجل الأعمال السياسيّ المبدع والقادر أن يجد مصادر جديدة للدخل السياسيّ، من خلال التلاعب بالجغرافيا السياسية للرعاية والرُعاة أو استغلال وسائل جديدة لتعبئة جمهورٍ ما.
يعرّف “السوق السياسي” على أنّه نظامُ حكمٍ معاصر، يتميّز بانتشار الريع والرعاية النقدية التّي تأخذ شكل تبادل الولاء مقابل الدفع في سياق التهديدات المنتشرة بسبب العنف والعولمة. السوق السياسيّ في هذا الصّدد هو مكانٌ تجري فيه الأعمال السياسية بأشكال التبادل، بما في ذلك تسليع التعاون والولاء على النحو الذّي يحدّده العرض والطلب وينظّمه العنف والتهديد بالعنف. يؤكّد الكاتب أنّ سلوكيات السياسيّين يجب أن تُفهم بعدسة الأعمال التجارية، حيث إنّ الفاعلين السياسيّين هم أفراد يسعون إلى السلطة والمكاسب الماديّة للولاء. وقد حدّد الكاتب فئتيْن من الجهات الفاعلة في السوق السياسية وهما: رواد الأعمال السياسيون ومديرو الأعمال السياسيّة، ويُعتبر الأوائل عملاء/زبائن أصحاب طموحات، بينما مديرو الأعمال السياسية هم حكّام ورعاة ورؤساء تنفيذيون وأولئك الذّين يُوظّفونهم كرؤساء أحزابٍ ورؤساء أمنٍ ومديرون ماليّون. يجادل دي وال بأنّ السعي وراء الريع في القطاعين السياسيّ والاقتصاديّ هما الظاهرة نفسها، وأنّ مهارات إدارة الأعمال السياسيّة تتمثّل في تطبيق الأحكام على الحالات الطارئة بدلاً من تطبيق قوالب السياسة المعتمدّة.
لقد حدّد أربعة متغيّرات يعمل من خلالها السوق السياسيّ المحرّر:
المتغيّر الأول هو التمويل السياسيّ ويتكوّن من تلك الأموال التّي يمكن للسياسيّ استخدامها وفقًا لتقديره مدفوعات الولاء أو الانفاق الأمنيّ المباشر أو الإنفاق على السلع العامة. عندما تفشل ميزانية التمويل السياسيّ في تغطية التكلفة السائدة للولاء، يرى دي وال أنّ السياسيّين إمّا سيلجؤون إلى الإكراه أو إلى الشوفينية أو التعبئة على أساس الهويّة، أو سيسقطون.
المتغير الثاني هو السيطرة على وسائل العنف، يشير إلى الإدارة المحكمة وتوزيع أدوات العنف مثل الحرب واتفاقيات السلام وقرارات السياسيّين لتطوير مؤسّسات أمنية متنافسة منفصلة لأنظمتهم.
المتغير الثالث: وسائل تنظيم الخلافات السياسيّة وتتضّمن قواعد وإجراءات غير رسمية.
المتغيّر الرابع: شروط التكامل العالميّ، يكشف عن اندماج الدول المعتمدة على الريع في المنطقة في السياقات العالمية. يجادل دي وال بأنّ مصادر التمويل السّياسيّ، طبيعة توزيع السّيطرة على العنف ومداه، وكذا الحواجز التّي تحول دون الدّخول، كلها أمور مشتركة وتثبت أنّ الحوكمة تتّم بشكل أساسيّ من خلال التعاملات الشخصية، حيث المؤسّسات الرسمية والأعراف العرفية تابعة للسوق السياسيّ، يتمّ توزيع السيطرة على العنف أو الطعن فيه، وتحرير الاتصال حسب حاجة الموقف، والسعي وراء الريع منتشر، بالرغم من أنّ أنظمة حوكمة السوق السياسيّة يمكن تنظيمها بطرقٍ مختلفة. تشبه السياسة الواقعية في دول القرن الإفريقي سوقًا حيث يعمل السياسيون الناجحون وفقًا لمبادئ العمل، لزيادة القوة وتحقيق الطموحات من خلال الحدّ من دخول المنافسين إلى السوق وتثبيط المنافسين، وتنمية ولاء العملاء من خلال العلامات التجارية باستخدام سياسات الهويّة، وعن طريق إظهار إلتزامهم طويل الأمد، والذّي يمكن أن يكون من خلال علامات هويّاتية.
الفصل الثالث
يلخص التاريخ المعاصر للقرن الإفريقي كمختبرٍ للصراعات على مدى العقود الثلاثة الماضية التّي أدت إلى انفصال أجزاء من ثلاث دول رئيسية، وهي إثيوبيا والسودان والصومال لتصبح دولًا مستقلةً متمثّلةً في إريتريا وجنوب السودان وأرض الصومال (صومالي لاند) على التوالي. كانت المنطقة بأكملها خلال الحرب الباردة متشابكةً في حروبٍ أهلية بسبب دعم القوى العظمى (الولايات المتحدّة والاتحاد السوفيتي) للمجموعات السياسية المختلفة في المنطقة لتعزيز مصالحها الجيوبولتيكيّة والسيطرة على طرق التجارة العالمية عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي بين آسيا وأوروبا وإفريقيا. في فترة ما بعد الحرب الباردة احتّل ظهور الجماعات السياسية الإسلامية انشغال الديناميكيات الإقليمية، ساهمت هذه الحركات في اندماج السوق السياسيّ للمنطقة في الاقتصاد السياسيّ الدوليّ للحرب العالمية على الإرهاب.
الفصل الرابع
يحلل أزمات دارفور التّي طور منها بالفعل إطار عمل السوق السياسيّ. يرى دي وال أن دارفور بدت قريبةً من السوق السياسية المثالية، حيث كان العديد من القادة السياسيّين والعسكريّين المؤقتّين في منافسةٍ شديدةٍ لشراء الولاء. كما يُشدّد على الأخطاء التّي ارتكبتها الحكومة السودانية في عملية تسويق الحياة السياسيّة في دارفور، التّي أشعلت الحرب عام 2003. علاوةً على ذلك يؤكد بأنّ وجود وجوه متعدّدة للولاءات حولّت طبيعة الصراع من مستوى الاضطراب المطلوب لحدوث الحرب إلى حربٍ واسعةِ النطاق يصعب إدارتها.
الفصل الخامس
يركز على السوق السياسيّة الوطنيّة السودانيّة. يكشف عن الترتيب الهيكليّ للسياسة السودانيّة على أساس إنشاء الميزانيات السياسية وتوزيعها من خلال الريع. يفسّر تراكم الموازنة السياسية من قبل النخب السياسية السودانية الساعية إلى الريع، التدهور المستمر للمؤسسات الحكومية وصعود الحركات الإسلامية في الديناميكيات السياسية الداخلية، عملية الحرب ومفاوضات السلام مع تراجع الميزانية السياسية، وكوارث ما بعد الانفصال التّي واجهتها الحكومة السودانية.
الفصل السادس
يركز على جنوب السودان كمثالٍ خاصّ فشلت فيه المؤسّسات السياسية والحكوميّة تحت رعاية عسكريّة. النظام السياسيّ في جنوب السودان هو نتيجة ثانوية مباشرة، وهو وتحويلٌ للدخل من النفط الذّي يتّم إنفاقه لشراء الولاء السياسيّ من عدد هائلٍ من الأفراد العسكريّين وتفويض بالفساد. كانت الأزمة حتميّة مع انخفاض عائدات النفط، نظرًا لأنّ النظام الكليبتوقراطيّ في جنوب السودان (أيْ نظام حكم العصابات الفاسدة) يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الميزانية السياسية من ريع النفط من أجل استقرار بقائه.
الفصل السابع
يغطي ثلاثين عامًا من السوق السياسيّة الصومالية عندما كانت الحكومة قائمة على نظام باتريمواني عسكريّ وريع القوى العظمى في الحرب الباردة كمصدر رئيسيّ للميزانية السياسيّة. يجادل دي وال بأنّ السبب الرئيسيّ لانهيار الدولة في الصومال هو فشل النظام العسكريّ في تنظيم التمويل السياسيّ والسوق السياسيّ. فشلت المحاولات المتتالية في الصومال لبلوغ صيغةٍ تشبه حكومةٌ ما من خلال التمويل السياسيّ للريع في حلّ المشكلة. دمرت التجربة القصيرة التّي قامت بها الجماعات السياسية الإسلامية لإنشاء حكومة مستقرة ومحليّة من قبل القوات الأمريكية وراعيها الإقليميّ إثيوبيا.
الفصل الثامن
يركز على حالة بعث دولة أرض الصومال (صومالي لاند) بعد الأزمة من خلال العملية السياسية للمساومة بين المموّلين المحليّين ورجال الأعمال السياسيّين والعسكريّين في إعادة البناء السياسيّ.
يغطّي الفصل التاسع إريتريا ويوضّح كيف أنّ وحشية أسياس أفورقي، كشخص ماهر في الإدارة السياسية، قد مكنّته من البقاء في السلطة بالرغم من الهزيمة العسكرية التّي مُني بها من إثيوبيا المجاورة والاقتصاد المفلس والعزلة الدوليّة.
يفحص دي وال في الفصل العاشر إثيوبيا وكيف تُظهر ظروفًا مختلفةً عن البلدان الأخرى في المنطقة نظرًا لكونها دولةً قويّةً ومستدامةً وفيها مؤسّسات حكومية دائمة. يجادل بأنّ تجربة إثيوبيا لنموذج الدولة التنموية ضدّ الاقتصاد المُخطَّط مركزيًا في وقتٍ سابقٍ والسعي وراء الريع تجربةٌ تتحدّى مبدأ السوق السياسيّة.
يوضّح الفصل الحادي عشر العلاقة بين القرن الإفريقي والأسواق العالمية. يجادل الكاتب بأنّ القرن الإفريقي أصبح مكانًا “للرعاية العالمية” وجزءًا متكاملًا من تشكيل الحكومات الغربية الأمنيّة من خلال الأنظمة المعادية للإسلاميّين في إثيوبيا وإريتريا ضدّ القوى السياسية الإسلامية في المنطقة، خاصّةً في السودان والصومال. ساهم صعود الإسلاميّين في المنطقة في أوائل التسعينيات، واهتمام الحكومة الأمريكية والتزامها بتمكين القوّات المضادّة في إثيوبيا وإريتريا في استغلال الولاءات السياسية الإقليمية وتدويلها وجعلها مرتبطةً بالدولار تحت راية “الحرب العالمية على الإرهاب”. كان التعاون الأمني وتصدير النفط والمساعدات أدوات رعاية بين السوق الاقليمية والعالمية. يؤكّد دي وال أنّ أسلوب ما بعد 11 سبتمبر للتدخّلات الدولية وتشكيلات الرعاية بين الجهات الفاعلة المحليّة والعالمية في السوق لم تأخذ في الحسبان الحقائق المحليّة ولم تساهم بشكلٍ إيجابيّ في التطوّرات المستقبلية في المنطقة.
يناقش الفصل الأخير قنوات المجال العام للاتّصال أو المعلومات في السوق السياسية. يجادل دي وال بأنّ معلومات أو اتصالات السوق السياسية كعناصر للسياسة الواقعية لا تقلّ أهميّةً عن التمويل السياسيّ أو عن الأسلحة. أدّت التحوّلات في نُظم المعلومات وتقنيات الاتصال إلى زيادة كفاءة السوق السياسيّة وشموليّتها. إنه يمهّد الطريق لأصحاب المشاريع السياسية ومُديري الأعمال الجدد للانضمام إلى السوق. مع انتشار الطامحين الجدد إلى السوق السياسية، تلتزم النخب القديمة بالأجهزة الأمنية للسيطرة على التحدّيات الجديدة. ومن خلال التغيير في قناة الاتّصال، لا يعني دي وال التبادل الأوسع للأفكار في المجال العام كما هو الحال في السياقات الديمقراطية، ولكن بالأحرى الشائعات المتداولة في السوق السياسية حول “من يحصل على ماذا وكم يحصل عليه” بطرقٍ سريّة. تؤثّر قناة الاتّصال السياسيّة السرّية هذه سلبًا على المجال العام والسلع العامّة بما في ذلك بناء الدولة.
تأمّلات نقدية:
هذا العمل مفيد للغاية لأولئك الذّين يهتّمون بالديناميات السياسية الإقليمية للقرن الإفريقي. فالكتاب غنيّ بالمعلومات المباشرة التّي تُعدُّ شهادةً حيّةً حول ما كان وما يجري، وما يرتبط بماذا ومن وما يقف وراء تطوّرٍ مُعيّن في بلدٍ مُعيّنٍ في القرن الإفريقيّ، وآثاره الخارجية على المنطقة، وكذا الإعدادات العالمية. رسالة دي وال في هذا العمل تتمثّل في أنّ رهن السياسة بالمال يؤدّي إلى تدهور الدول والمؤسسات والشرعية السياسية في دول القرن الإفريقيّ، وكذلك الاستقرار في المنطقة الأوسع. توضّح النتائج التّي توصّل إليها دي وال أن ّما يهمّ حقًا في سياسات القرن الأفريقي هو المال. يعمل الفاعلون السياسيون وفقًا لمبدأ العمل المتمثّل في تضخيم الأرباح أو كسب المزيد من الميزانية السياسية لاستثمارها بشكلٍ أساسيّ في الدائرة القريبة للنخبة السياسية، أي قطاع الأمن وشراء الولاءات، وثانيًا في التنمية والسلع العامة. يعمل الفاعلون السياسيون في بيئةٍ محليّةٍ وإقليميةٍ مضطربةٍ يعترف بها دي وال كنظامٍ يُسهّل الأداء الصحيّ للسوق السياسيّ. الاضطراب هو نتيجةٌ ثانويةٌ لأعمالٍ متعمّدةٍ من رجال الأعمال السياسيّين وأساس لبقائهم في السلطة. يجادل الكاتب بأنّ عوامل الهويّة (العرق والثقافة والدين) هي حقائقٌ في أيّ دينامياتٍ سياسيةٍ في المنطقة. إلّا أنّه يرى أنّ لدى تلك العوامل أدوارٌ ثانويةٌ مقارنةً بالمبادلات النقدية للولاءات بين مختلف الجهات الفاعلة في المنطقة. أمّا في ما يسميه “التدويل والدَوْلَرَة” “the Internalization and Dollarization” يجادل الكاتب بأنّ السوق المحليّة والإقليمية مرتبطةٌ بالسوق العالمية من خلال تجارة النفط والتعاون الأمنيّ.
بالرغم من أنّ عمل أليكس دي وال يُقدّم رؤى قيّمةً حول دور كثيرٍ من الفواعل في سياسات القرن الإفريقيّ، إلاّ أنّ رأيه اختزاليّ بمعنى أنّه يقلّل من الطبيعة المعقدّة للسياسة الإقليمية إلى مجرّد عاملٍ ماليّ أو تسويق سلسلةٍ واسعةٍ من السياسة. يعترف علم السياسة السائد حقًّا بالتفاعل بين السياسة والاقتصاد في الاقتصاد السياسي، وقد طورت مفاهيم مثل (الكليبتوقراطية) و(الباتريموانية) لشرح كيفيّة تلاعب المال بالسياسة ودور الروابط غير الرسمية في ثني الإجراءات الرسمية.
ثانيًا بينما يتبنّى دي وال إطار عملٍ تجاريٍ لتحليل السياسة في القرن الإفريقي، فإنّه يلتزم نموذج السوق الليبراليّ الجديد الذّي يعتمد على المنافسة الكاملة والتدفّق الكامل للمعلومات بين المشترين والبائعين حول المنتجات في السوق. تُعرَف الأنظمة بقمعها لأحزاب المعارضة ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنيّ في سياق القرن الإفريقيّ، وتاليًا تتجاهل الأفكار البديلة للجمهور. هذا يضع النموذج الذّي يُقدّمه دي وال للسوق السياسي بعيدًا من معاييره الخاصّة. يعاني الكتاب من التطبيق المباشر لجميع مفاهيم اقتصاد السوق على السياسة، والتّي تفتقر بطبيعتها إلى صيغةٍ واحدةٍ تُحدّد فهم الحقائق الحالية والتنبؤ بالتطوّرات المستقبلية. يتضّح خطر تسويق التجاري للسياسة وإضفاء الطابع المالي عليها عندما يتحوّل الفاعلون السياسيون ويحافظون على ولائهم لهويّاتهم على حساب قسطٍ كبيرٍ من التمويل السياسيّ. يمكن إثبات ذلك بشكلٍ خاصٍّ من خلال التحوّلات السياسية الجارية في إثيوبيا والسودان، تلك التّي نتجت عن جهاتٍ فاعلةٍ سياسيةٍ (في قلب الأنظمة) تستجيب لأسئلةٍ حقيقيةٍ لدى الناس مثل المساواة وحريّة التعبير والديمقراطية التّي لا يمكن عزوها إلى التمويل السياسيّ.
ثالثًا يحلّل دي وال تكامل الأسواق السياسية المحليّة للقرن الإفريقي مع الأسواق الإقليمية والعالمية. مع ذلك فإنّ الأسواق السياسية في القرن الإفريقي تُعتبر إلى حدٍّ كبيرٍ نتيجةً ثانويةً للبيئات الدوليّة المشجّعة، حيث تُوفّر القوى العالمية المتنافسة ميزانيةً سياسيةً لدعم الجماعات التّي ستدعّم أيديولوجياتها في المنطقة. إنّ الأحداث السياسية الكبرى في المنطقة مثل انفصال إريتريا عن إثيوبيا، وانفصال جنوب السودان عن السودان، والتدخّل العسكريّ الإثيوبي في الصومال، هي نتائج تأثيراتٍ خارجيةٍ من دولٍ غربيةٍ بشكلٍ أساسيّ في السياق العالميّ لما بعد 11 سبتمبر. تُعدُّ التطورات في القرن الإفريقي ترجمةً للسياقات العالمية أكثر من كونها نتائجًا محليّة ووطنية وإقليمية. لقد فشل الكاتب في تطبيق الاتّجاه ذاته من النقد للقوى الغربية -خاصّة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- لجماعاتهم السياسية المختلفة بالمنطقة التّي لا تدعم مفاوضاتٍ سياسيةٍ حقيقية، بالرغم من أنّه هو نفسه يسعى إلى انتقاد الحركات الإسلاميّة في السودان والصومال ودول الخليج وبنوكها الإسلامية كمصادر للميزانيات السياسيّة.
رابعًا يخاطر إطار عمل الكاتب السياسيّ وتوجّهه بتطبيع أنشطة الفاعلين السياسية اللاإنسانية، من خلال عدّ وظيفتها المتمثّلة في خلق الاضطرابات، مهارات إدارة أعمال سياسية مهمّة. كما يمتنع عن غرس الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن من أجل سياساتٍ إقليميةٍ أفضل، بالرغم من أنّ دراسته تتعلّق بشكلٍ أساسيّ بالسياسة. يؤكّد بدلًا من ذلك على الطرق التّي يكتسب بها الفاعلون السياسيون ميزانيةً سياسيّةً في ظروفٍ مضطربةٍ للحفاظ على السلطة، ويعتمد تقييمه نجاح أو فشل الجهات الفاعلة على أطر العمل. علاوةً على ذلك يركّز تحليله على الجهات الفاعلة أكثر من التركيز على الدوافع والتطلّعات على مستوى المجتمع المحلّي. يختزل عمل الكاتب السياسة في المال على حساب العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتاريخية، وتفاعلاتها في مختلف المستويات، بالرغم من أنّ تطبيق الكاتب لنموذج الأعمال التجارية يُقدّم رؤى مفيدة حول قواعد اللعبة في السياسة الإقليمية للقرن الإفريقي. هذا العمل وبشكلٍ عامّ يجب على أولئك الذّين يرغبون في دراسة مختلف القضايا في القرن الإفريقي قراءته، بما في ذلك قضايا السلام والصراع والأمن والديمقراطية والشرعية السياسية وبناء الدولة.
المصدر:
نُشر المقال بمجلّة جُسور الجيوبولتيك (GPB)، الصادرة عن مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)، المُجلّد الأول، العدد الأول، شتاء 2023.