Uncategorized

المراحل الانتقالية في إفريقيا: قضية السيادة وترسيخ حكم العسكر

تحاول هذه الورقة رصد ما تتسم به آفاق المسارات الانتقالية الحالية في إفريقيا وذلك من خلال تعامل الجيش مع السلطة وتغيير الدساتير فضلًا عن إدخال مفردات جديدة للمجال التداولي مثل “السيادة” والحفاظ عليها وهو ما من شأنه إطالة مدة العسكر في السلطة.

مقدمة

شكَّل انقلاب عاصيمي غويتا ورفاقه العسكريين، في 18 أغسطس/آب عام 2020، على الرئيس المدني المالي الراحل، إبراهيم بوبكر كيتا، بداية مرحلة جديدة من الانقلابات العسكرية في غرب ووسط القارة الإفريقية، كما شكَّل انتكاسة للمسار الديمقراطي الذي كانت القارة قد بدأت في مراكمته من خلال وصول عدة رؤساء إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.

ولم تمر سوى تسعة أشهر على الإطاحة بكيتا، واختيار الحكام العسكريين الجدد رفيقهم السابق في البزة والسلاح، العقيد المتقاعد باه نداو، حتى انقلبوا عليه مجددًا، وتولى نائبه، عاصيمي غويتا، السلطة.

وعلى غرار سرعة تفشي الفيروسات في إفريقيا، كما حصل بشأن فيروس إيبولا نهاية 2013، وفيروس كورونا عام 2020، وجدري القرود في 2024، انتشر فيروس الانقلابات العسكرية.

ففي منتصف سبتمبر/أيلول 2021، أطاح مامادي دومبويا ورفاقه بالرئيس الغيني، ألفا كوندي، بعد أقل من عام على انتخابه لولاية ثالثة مثيرة للجدل، وهو الذي شكَّل انتخابه رئيسًا للمرة الأولى سنة 2010، أول انتقال ديمقراطي للسلطة في البلاد.

وقبل الانقلاب الغيني بنحو خمسة أشهر، أُعلن في تشاد عن مقتل رئيس البلاد، إدريس ديبي إتنو، في ظروف غامضة، وإن كانت الرواية الرسمية تشير إلى أنه قُتل في جبهة القتال من طرف متمردين، وعلى إثر ذلك تولى نجله الجنرال، محمد ديبي، السلطة رئيسًا انتقاليًّا، في أبريل/نيسان 2021، في خطوة شبَّهها الاتحاد الإفريقي بالانقلاب العسكري.

ثم توالى زحف إطاحة العسكر بالمدنيين في عدة بلدان أخرى، ففي يناير/كانون الثاني 2022، أطاح العقيد بول هنري سانداوغو داميبا ورفاقه برئيس بوركينا فاسو، روك مارك كريستيان كابوري، وبعد ثمانية أشهر أطاح النقيب إبراهيم تراوري وآخرون بالرئيس العقيد.

ووصلت عدوى الانقلابات، في 26 يوليو/تموز 2023، النيجر، فانقلب الجيش على الرئيس المدني، محمد بازوم، بعد أزيد من عامين على انتخابه، وتبادله السلطة مع الرئيس المدني، محمدو إيسوفو، الذي حكم البلاد لولايتين رئاسيتين.

ولم يمض سوى شهر وبضعة أيام على الإطاحة ببازوم، حتى أطاح الجيش في الغابون بالرئيس علي بونغو أونديمبا بعد إعلان فوزه بولاية ثالثة، منهيًا بذلك حكمه القائم منذ عام 2009، بعد وفاة والده عمر بونغو الذي أمضى 42 سنة في السلطة.

تمديد المراحل الانتقالية وتكريس حكم العسكر

لا يبدو رؤساء المجالس العسكرية الانتقالية بالقارة الإفريقية في عجلة من أمرهم لتسليم السلطة للمدنيين بعدما أخذوها بالقوة، فبعضهم مدَّد لنفسه وبعضهم الآخر يتجه لذلك، ومنهم من بقي في الحكم على إثر انتخابات تقول معارضته: إنها كانت على قياسه.

ففي مالي، اقتَرح حوارٌ دعا له المجلس العسكري الحاكم وقاطعه العديد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في ختام أعماله في شهر مايو/أيار 2024، من ضمن عدة مقترحات أخرى، تمديدَ المرحلة الانتقالية لفترة تتراوح بين عامين وخمسة أعوام(1).

وقد انتهت رسميًّا المرحلة الانتقالية، في 26 مارس/آذار 2024، بعدما وقَّعَ الرئيس الانتقالي، عاصيمي غويتا، مرسومًا، في 6 من يونيو/حزيران 2022، يقضي بتمديد المسار الانتقالي أربعة وعشرين شهرًا ابتداءً من 26 مارس/آذار 2022(2).

وفي بوركينا فاسو، اتفق المشاركون في حوار وطني على تمديد فترة حكم النقيب إبراهيم تراوري لمدة خمس سنوات إضافية اعتبارًا من 2 يوليو/تموز 2024، كما اتفقوا على انتقال صفته من رئيس انتقالي إلى رئيس بوركينا فاسو(3).

أما في النيجر الذي يعد البلد الوحيد الذي لا يزال فيه الرئيس المطاح به وراء القضبان ويتجه العسكريون لمحاكمته، فقد حدَّد الرئيس الانتقالي، الجنرال عبد الرحمن تياني، الفترة الانتقالية في ثلاث سنوات، مضى منها أزيد من عام، ولكن من غير المستبعد أن تسلك البلاد نفس المسار الذي سلكته جارتاها وحليفتاها في تحالف دول الساحل، مالي وبوركينا فاسو(4).

وكما هي الحال بالنسبة للنيجر، فإن المجلس العسكري الحاكم في غينيا كوناكري، حدد مدة المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات، قبل إعادة الحكم نظريًّا إلى سلطة مدنية منتخبة، وفيما لم يحدد المجلس متى تبدأ هذه الفترة، فإن الانقلاب على الرئيس ألفا كوندي مضى عليه أزيد من ثلاثة أعوام، ولم يُعلَن رسميًّا وبشكل علني عن تمديد الفترة الانتقالية، لكن الوزير الأول الغيني، أمادو أوري با، قال في مقابلة: إن “عام 2025 سيكون مناسبًا لإتمام العملية برمتها”(5) أي إنهاء المسار الانتقالي وتنظيم انتخابات رئاسية.

وتبدو المرحلة الانتقالية في الغابون من أقصر الفترات زمنيًّا؛ إذ حُددت لها سنتان، لكن رئيس الوزراء الانتقالي، ريمون ندونغ، لم يستبعد، في مقابلة سابقة له، إمكانية تمديدها “بشكل طفيف” إذا تطلب الأمر ذلك(6). وفي حال حصل هذا السيناريو فإن الاستثناء سينتفي، وتكون بلاد الجنرال بريس أوليغي نغيما قد سارت على نفس درب التمديد.

وتشكِّل تشاد استثناء من حيث انتهاء المسار الانتقالي؛ إذ بات الجنرال محمد إدريس ديبي رئيسًا للبلاد بعد تنظيم انتخابات رئاسية، في مايو/أيار 2024، لكنه قبل ذلك كان قد مدَّد فترة رئاسته الانتقالية مرتين، الأولى كانت مدتها عامين، وجاءت بعد ثمانية عشر شهرًا على تولي الجنرال الشاب الرئاسة خلفًا لوالده(7).

وفي 8 من أكتوبر/تشرين الأول 2022، اختُتِم حوار وطني آخر دام أسابيع، وتضمنت مخرجاته تمديد الفترة الانتقالية لسنتين، وحلَّ المجلس العسكري، والسماح لأعضائه بالترشح للانتخابات الرئاسية بمن فيهم الرئيس محمد ديبي إتنو(8).

مقاربة أولوية الأمن والاقتصاد على الانتخابات

يعتبر النظامان العسكريان الحاكمان في مالي وبوركينا فاسو أن إحلال الأمن والاستقرار بالبلدين يشكل أولوية على إجراء الانتخابات، ويعتبران أن الاقتراع طالما أنه لن يُجرى في مختلف أرجاء الدولتين بفعل التهديد الذي تشكله الجماعات المسلحة فإن أهميته تكون ناقصة؛ لأن جزءًا كبيرًا من السكان لن يكون بمقدوره المشاركة.

ولم تكن هذه السردية موجودة لدى رئيسي المجلسين العسكريين الحاكمين في باماكو وواغادوغو حينما نفَّذا انقلاباتهما، وإنما تعهدا بتسليم السلطة للمدنيين وباحترام الآجال الانتخابية طبقًا للأجندة المحددة مسبقًا، بل إن الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو، النقيب إبراهيم تراوري، تعهد في أول مقابلة له بإعادة السلطة للمدنيين في غضون أشهر(9).

لكن لهجة النقيب الشاب إزاء الحكم المدني وإجراء الانتخابات تغيرت بعد أقل من سنة؛ إذ أعلن في مقابلة مع التليفزيون الرسمي أن الاستحقاقات التي كان مقررًا إجراؤها في يوليو/تموز 2024 “ليست أولوية، عكس الأمن”(10)، وبناءً على ذلك لم يتم بعد تحديد موعد لإجراء الاقتراع.

وفي مالي أُعلن كذلك عن تأجيل الانتخابات الرئاسية دون تحديد موعد جديد لها، وذلك بعد أن كان مقررًا تنظيمها في فبراير/شباط 2024، وأرجعت السلطات السبب إلى قضايا فنية، تتعلق بإقرار دستور جديد، ومراجعة اللائحة الانتخابية، لكن سبق ذلك بكثير إعلان الوزير الأول الانتقالي، شوغيل كوكالا مايغا، في لقاء بدبلوماسيين معتمدين لدى باماكو أن “الانتخابات ليست أولوية”(11).

وفيما يعتبر الرئيسان، عاصمي غويتا وإبراهيم تراوري، أن الأمن سابق على إجراء الانتخابات، يرى رئيس المجلس العسكري الحاكم في غينيا كوناكري، مامادي دومبويا، أن مواجهة الأوضاع الاقتصادية في البلاد هي الأولوية، وقد حظر مؤخرًا سفر الوزراء وكبار المسؤولين إلى الخارج، من أجل “ترشيد النفقات العمومية”(12).

ولم تخرج تشاد عن النسق كثيرًا، فقبل تنظيمها الانتخابات، كانت قد أعلنت حالة طوارئ غذائية بفعل تداعيات التغير المناخي، وكذا الحرب الروسية-الأوكرانية التي أثّرت على حصول نجامينا على جزء مهم من احتياجاتها من مادة الحبوب، وهذه العوامل مجتمعة كانت من ضمن أبرز الأسباب التي جعلت الانتخابات لا تكون أولوية، ينضاف إليها كذلك البعد المتعلق بالأمن.

وقد نجح الرئيس محمد ديبي بذلك في تمديد فترة رئاسته الانتقالية مرتين، ومع ذلك فإن التحدِّيَيْن البارزين ظلا مطروحين حتى بعد تنظيمه الانتخابات، وهو ما يعني أنهما كانا مجرد ذريعة للتهرب من تنظيم الاقتراع. فالإشكال الغذائي بقي مطروحًا بحدة خصوصًا في ظل تزايد استقبال البلاد للسودانيين الفارين من جحيم الحرب، وكذا الأمر بالنسبة للإشكال الأمني؛ إذ تعرضت قاعدة عسكرية في منطقة بحيرة تشاد بالقرب من الحدود مع النيجر لهجوم من طرف جماعة بوكو حرام خلَّف مقتل وجرح عشرات الجنود، واعتبر الأعنف منذ أربع سنوات؛ إذ قتلت نفس الجماعة نحو مئة جندي، وكان ذلك في عهد الرئيس الأب، إدريس ديبي إتنو(13).

الرؤساء الجنرالات وآليات إطالة أمد الفترات الانتقالية

باستثناء الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، الذي يحمل رتبة نقيب، فإن باقي رؤساء المجالس العسكرية الإفريقية هم جنرالات، بعضهم حصل على هذه الرتبة العسكرية قبل أن ينقلب ورفاقه على الرؤساء المدنيين، وبعضهم اكتسبها لاحقًا حين أخذ السلطة بالقوة.

ففي مالي، صدر قرار حكومي، شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يقضي بترقية الرئيس الانتقالي عاصيمي غويتا، وخمسة آخرين من رفاقه الذين قادوا معه انقلابيه العسكريين، إلى رتبة جنرالات، وذلك بتوصية من المشاركين في حوار سياسي دعت له السلطات الانتقالية قبل أشهر، وقاطعه طيف واسع من المعارضة(14).

وقبل غويتا، الذي بات ثالث رئيس مالي برتبة جنرال بعد الرئيسين الأسبقين الراحلين، موسى تراوري وأمادو توماني توري، تمت ترقية الرئيس الانتقالي الغيني، مامادي دومبويا، إلى رتبة جنرال، في يناير/كانون الثاني 2024، وأضحى بدوره ثالث رئيس في تاريخ غينيا كوناكري يحصل على رتبة جنرال، بعد كل من لانسانا كونتي، وسيكوبا كوناتي(15).

أما بالنسبة لرؤساء النيجر وتشاد والغابون، فقد تقلدوا رتب جنرالات قبل انقلاباتهم العسكرية، ويمتاز الرئيس التشادي، محمد ديبي، بكونه جنرالًا وابن مارشال، فقد أعلن برلمان البلاد في يونيو/حزيران 2020، أي قبل أزيد من سنة على مقتله، ترقيته إلى رتبة مشير “مارشال” وبرر ذلك بـ”جهوده في محاربة الإرهاب”(16).

وهكذا، بات هناك خمسة جنرالات يتولون الرئاسة في إفريقيا وقد وصلوا السلطة عبر انقلابات عسكرية، بالإضافة إلى السودان التي يخوض فيها جنرالان، أحدهما رئيس انتقالي والآخر كان نائبًا له، حربًا منذ أزيد من عام ونصف.

ومن أجل تحصين رتبهم وكراسيهم، عمد مختلف هؤلاء الرؤساء إلى اتخاذ إجراءات مختلفة، تقوم بالأساس على الرغبة في نيل ثقة الشعب باعتباره المصدر الأول لبقائهم؛ لأن معظم الانقلابيين وصلوا السلطة على أنقاض مظاهرات شعبية ضد الحكام المدنيين.

وقد شكَّلت “السيادة” خيطًا ناظمًا بين مختلف الإجراءات التي تم القيام بها في هذا الإطار، ففي مالي مثلًا حددت السلطات الانتقالية 14 يناير/كانون الثاني من كل سنة يومًا وطنيًّا للسيادة، كما أدخلت إصلاحات على قانون التعدين بهدف ضمان استفادة المواطنين الماليين بشكل مباشر من فوائد الثروة الطبيعية في بلادهم، كما أطلقت عملية تدقيق معمقة توفر بيانات أساسية حول التعدين وآثاره الاجتماعية والاقتصادية (17).

وفي النيجر، تم اتخاذ إجراءات مختلفة من بينها إعادة تسمية شوارع وساحات في العاصمة نيامي بأسماء رموز وشخصيات وطنية أو إقليمية، بدلًا من الأسماء الأصلية التي كانت في معظمها فرنسية، في خطوة يعتبرها المجلس العسكري منسجمة مع خيار السيادة الذي تبناه منذ الانقلاب (18).

كما أنشأت حكومة بوركينا فاسو الانتقالية صندوقًا للسيادة الغذائية، هدفه الرئيسي تقديم الدعم المالي للجهات الفاعلة في القطاع الزراعي والرعوي وصيد الأسماك، فضلًا عن المعدات الزراعية ومعدات صيد الأسماك، وذلك في خطوة هدفها الاستغناء عن الدعم الخارجي (19).

وتشترك الدول الثلاث في اتخاذ عامل “سيادة” مشترك تمثل في طرد القوات الأجنبية من أراضيها وخصوصًا الفرنسية، وفتح المجال أمام القوات الروسية.

أما في الغابون، فقد تبنى الرئيس الانتقالي، أوليغي نغيما، “السيادة الاقتصادية”؛ إذ حضرت بقوة في عدد من خطاباته، إذ يعتبر أن القطاع الاقتصادي هو مفتاح السيادة الرئيسي، ودون أن يتخذ خطوات مناهضة للشراكات التقليدية للبلاد اقتصاديًّا أو أمنيًّا، يحث الجنرال الشاب على “الوحدة والعمل المشترك، من أجل تحقيق السيادة المنشودة”(20).

أما في غينيا كوناكري، فقد ألزم الرئيس مامادي دومبويا الشركات الأجنبية العاملة في مجال التعدين ببناء مصافٍ للبوكسيت في البلاد، والعمل على “تقاسم عادل للإيرادات”(21)، معتبرًا أن هناك عدمَ تناسب بين ما تجنيه البلاد، وحجم احتياطيها الأكبر عالميًّا من هذا المعدن.

وفي تشاد، يقدم محمد ديبي نفسه رجلًا للمرحلة من أجل بسط الأمن بمختلف أرجاء البلاد، ويمكن القول: إن “السيادة الأمنية” تشكل الرهان والتحدي لنظامه، وتقوم المقاربة الأمنية التي يتبناها الرئيس الجنرال على اعتماد “تدابير مبتكرة وشاملة، تهدف إلى إشراك المجتمع التشادي في مكافحة انعدام الأمن”(22).

الدساتير الانتقالية: تعزيز “السيادة” والتمهيد لتعزيز حكم العسكر

لقد اتجهت معظم المجالس العسكرية الانتقالية الحالية في إفريقيا، إلى وضع دساتير تكرس مفهومها للسيادة، وتسمح لها كذلك بالبقاء في السلطة بطريقة شرعية، وذلك من خلال إجراء انتخابات تسمح للرؤساء العسكريين بالترشح، وغالبًا بالفوز على غرار ما حصل في تشاد.

وكانت مالي سبَّاقة إلى وضع دستور جديد، يعتبر الرابع في تاريخ البلاد منذ عام 1992، تضمن التشديد على “السيادة”، وخفض مكانة اللغة الفرنسية من لغة رسمية إلى لغة للعمل فقط، ومنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، دون أن يحظر على العسكريين الترشح للرئاسة.

وقد تمت إجازة هذا الدستور بنحو 97% من أصوات الناخبين، لكن المعارضة المالية اعتبرت أنه وُضِع على مقاس المجلس العسكري(23).

وفي تشاد، تمت أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023، إجازة تاسع دستور في تاريخ البلاد منذ استقلالها عن فرنسا قبل أزيد من ستة عقود، نصَّ بشكل صريح في مادته 86 على أنه “يحق للقادة العسكريين الترشح للانتخابات الرئاسية، شريطة التفرغ لهذا المنصب”(24)، كما قلص الدستور الجديد سن الترشح من 40 إلى 35 سنة، وهو ما اعتبر يصب في صالح الرئيس محمد ديبي إتنو وتمهيد الطريق لترشحه.

أما بوركينا فاسو، فأخذ تكريسها للسيادة بُعدًا آخر؛ إذ صوَّت برلمانها الانتقالي على مشروع تعديل دستوري، هدفه تغيير شعار الدولة من “وحدة-تقدم-عدالة”، إلى شعار “الوطن أو الموت سننتصر”(25)، والذي كان معتمدًا في عهد الرئيس الأسبق، توماس سانكارا، الذي لا يًخفي الرئيس الانتقالي الحالي، إبراهيم تراوري، التأثر الكبير به.

وفيما لم يضع بعد المجلسان العسكريان في بوركينا فاسو والنيجر دستورًا جديدًا، قدم المجلس الحاكم في غينيا كوناكري، نهاية يوليو/تموز 2024، مسودة دستور جديد، يتكون من 205 مواد، ينص على فصل السلطات، ويستحدث مجلسًا للشيوخ، كما يسمح بالترشح المستقل للرئاسة.

ولكن هذا المشروع الدستوري، أثار بعض الجدل في أوساط الغينيين؛ إذ اعتبر بعضهم أنه “يمنح لرئيس المرحلة الانتقالية إمكانية الترشح” للرئاسة، كما اعتبر مناهضو هذا المشروع أن استحداث مجلس للشيوخ “بلا جدوى ومستنزف للميزانية”(26).

أما في الغابون، التي يبدو المسار الانتقالي فيها أسرع من باقي الدول التي شهدت انقلابات عسكرية خلال السنوات الأخيرة، فإن الدستور الجديد الذي تم إصداره بعد إنهاء حكم أسرة بونغو ينص في جوانب منه على تعزيز صلاحيات الرئيس، وذلك من خلال إلغاء منصب رئيس الوزراء، ولم تتم الإشارة تصريحًا ولا تلميحًا إلى منع العسكريين من الترشح للرئاسة.

وبالمقابل، يتضمن المشروع الدستوري الجديد بعض الجوانب الإيجابية منها أن الرئيس سيكون مسؤولًا أمام البرلمان؛ ما يعني أن إجراءات العزل ستكون متاحة في حالات “الخيانة العظمى أو انتهاك القَسَم أو الدستور”(27).

خاتمة

تتسم آفاق المسارات الانتقالية الحالية في إفريقيا بمستوى كبير من الضبابية، بفعل عدم احترامها للآجال التي حددها القادة العسكريون للبقاء في السلطة؛ إذ اتجه عدد منهم إلى تمديد ولايته لأكثر من مرة، أما من يبدي منهم الاستعداد للخروج من المرحلة الاستثنائية؛ فقد لجأ إلى اتخاذ العديد من الإجراءات الهادفة إلى تعبيد الطريق أمام بقائه في السلطة عبر البوابة الانتخابية.

وقد أسهمت عدة عوامل في تحقيق ذلك، منها ضعف الوعي في صفوف الكثير من شعوب هذه الدول؛ ذلك أنها في الغالب توالي كل من في السلطة، مدنيًّا كان أو عسكريًّا، كما أن العسكريين في مختلف هذه البلدان بنوا رؤاهم وتوجهاتهم العامة على كلمة مفتاح رئيسية هي “السيادة”، فهم يزرعون في أذهان شعوبهم أنهم جاؤوا لتخليص البلدان من هيمنة المستعمر السابق، فرنسا.

وينضاف إلى ذلك عامل آخر مهم، يتمثل في تقويض دور الأحزاب السياسية، ففي بعض الدول التي حدثت فيها انقلابات عسكرية، تم تعليق نشاط الأحزاب السياسية كما حصل في مالي، ومن الأنظمة العسكرية ما عمد إلى حل عشرات الأحزاب بذريعة عدم استيفائها الشروط القانونية كما هي الحال في غينيا كوناكري، وهناك من الساسة المعارضين من اعتُقل أو لجأ إلى خارج البلاد خوفًا من المتابعة والاعتقال، وهو ما أضعف الصوت المعارض في هذه الدول، ورسَّخ قوة الحكام العسكريين.

هذا فضلًا عن ارتماء بعض المعارضين في أحضان العسكريين، كما حدث في تشاد حين تولى سيكسي ماسرا رئاسة الوزراء على إثر صفقة مع نظام الرئيس محمد ديبي، وحدث في الغابون مع ريمون ندونغ سيما.

ورغم أن القادة العسكريين الحاكمين حاليًّا انقسموا بين مناهض لفرنسا، وعمل على طردها عسكريًّا وتحجيم حضورها وهيمنتها الاقتصادية من خلال إلغاء العديد من العقود المبرمة مع شركاتها المنتشرة بهذه البلدان، وتحالف مع روسيا عسكريًّا واقتصاديًّا بديلًا عنها كما هي حال حكام مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وبين من حافظ على البقاء تحت المظلة الفرنسية وسعى لتنويع الشركاء كما هو شأن الرئيس التشادي، وبين من لم يغير أي شيء على صعيد خارطة الشراكات الخارجية كرئيسي غينيا كوناكري والغابون، فإن “السيادة” تشكل خيطًا ناظمًا بينهم جميعًا، كآلية لتعزيز أركان سلطتهم.

فمن بين الرؤساء الانتقاليين من ركز على “السيادة” بمفهوميها، السياسي والاقتصادي، وتجلى ذلك من خلال طرد “المستعمر القديم الجديد”، وإلغاء بعض الاتفاقيات المبرمة مع عدة شركات فرنسية في مجال التعدين أساسًا، وهذا ينطبق على مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهناك من ركز على “السيادة” في بعدها الأمني، وهذا ما حصل في الحالة التشادية، فيما ركز الرئيسان الانتقاليان، الغيني والغابوني، على البعد الاقتصادي للسيادة.

إن مثل هذه الشعارات قد تصلح لبعض الوقت، ولكن لا يمكن الرهان عليها على المدى البعيد، لأنها سرعان ما تتآكل في ظل استمرار الأزمات البنيوية التي تعاني منها هذه البلدان، والتي يعجز العسكريون حاليًّا عن حلِّها كما عجز المدنيون من قبلهم.

وترتبط هذه الأزمات أساسًا بالأوضاع الأمنية التي تشكل مصدر تهديد مستمرًّا لبقاء الأنظمة، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للسكان، والتي قد تحول الالتفاف الشعبي الحالي حول العسكريين إلى التظاهر ضدهم؛ ما قد يحفز عسكريين آخرين على التحرك لتنفيذ انقلابات جديدة، وبالتالي العودة إلى نفس المربع من جديد.

مراجع

1) أبرز مخرجات الحوار الوطني الشامل في مالي، 11 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 26 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/mCjsD7

2) انظر الموضوع:

Mali: Les militaires restent au pouvoir malgré la fin officielle de la période de transition, publié le 28 mars 2024, vu le 26 octobre 2024, https://urls.fr/QkM5am

3) بوركينا فاسو تمدد حكم المجلس العسكري الانتقالي 5 سنوات، 26 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 26 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/Ll1Bid

4) انظر الموضوع:

Niger: le général Tiani promet une transition de trois ans, manifestation de soutien à Niamey, publié le 19 août 2023, Vu le 26 octobre 2024, https://urls.fr/rkI0Ln

5) انظر الموضوع:

Guinée: Les militaires envisagent de rester au pouvoir jusqu’en 2025, publié le 12 mars 2024, vu le 27 octobre 2024, https://urls.fr/YhH2_7

6) رئيس وزراء الغابون يتحدث عن فترة انتقالية لعامين بعد الانقلاب، 10 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024)،  https://urls.fr/gZy5ne

7) تشاد: تمديد الفترة الانتقالية لعامين قبل إجراء انتخابات والسماح لمحمد ديبي إتنو بالترشح للرئاسة، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2022، (تاريخ الدخول: 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/b-bZO1

8) مستقبل المرحلة الانتقالية في تشاد: التطورات والمسارات المحتملة، 16 أبريل/نيسان 2024، (تاريخ الدخول: 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/eP9sry

9) انظر الموضوع:

Burkina Faso: le capitaine Ibrahim Traoré en exclusivité, publié le 1 octobre 2022, vu le 28 octobre 2024, https://urls.fr/rfJ3Pc

10) رئيس بوركينا فاسو الانتقالي: الانتخابات ليست أولوية، 29 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 28 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/TiRv3F

11) انظر الموضوع:

Mali: pour le premier ministre de la transition, les élections ne sont pas priorité, publié le 10 septembre 2021, vu le 28 octobre 2024, https://urls.fr/GnEHYD

21) انظر الموضوع:

Guinée: Mamadi Doumbouya interdit à ses ministres de voyager à l’étranger, publié le 11 octobre 2024, vu le 28 octobre 2024, https://urls.fr/KVl6vw

31) انظر الموضوع:

Tchad: une attaque de Boko Haram contre une base militaire fait au moins une quarantaine de morts, Publié le 28 octobre 2024, vu le 29 octobre 2024, https://urls.fr/hft1Z2

41) مالي: ترقية غويتا وقادة بالمجلس العسكري إلى رتبة جنرال، 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/JpXhe7

15) انظر الموضوع:

Guinée, le colonel Mamadi Doumbouya désormais général de corps d’armée, publié le 24 janvier 2024, vu le 31 octobre 2024, https://urls.fr/v3JjKr

 16) ترقية الرئيس التشادي إدريس ديبي إلى رتبة مشير، 27 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 31 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://urls.fr/P1ixhp

17) انظر الموضوع:

Mali: La réappropriation des ressources, clé de la souveraineté nationale, publié le 28 octobre 2024, vu le 04 novembre 2024, https://urls.fr/dRcwJ3

18) النيجر تطارد “أشباح فرنسا” في شوارعها، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 04 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، https://urls.fr/0brwh_

19) انظر الموضوع:

Le Burkina Faso crée un fonds de souveraineté alimentaire, publié le 08 février 2024, vu le 04 novembre 2024, https://urls.fr/qlXrnP

20) انظر الموضوع:

La souveraineté a occupé une place majeure dans le discours d’Oligui Nguema, publié le 18 août 2024, vu le 04 novembre 2024, https://urls.fr/eXpXCB

21) انظر الموضوع:

Guinée: Les compagnies minières sommées du transformer la bauxite sur place, publié le 10 avril 2022, vu le 04 novembre 2024, https://urls.fr/kx4CWD

22) انظر الموضوع:

La vision sécuritaire de Mahamat Idriss Déby Itno: Un Tchad uni et protégé, publié le 27 avril 2024, vu le 04 novembre 2024, https://urls.fr/oRFD-q

23) مالي: المجلس الدستوري يؤكد نتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد الذي يعزز موقع المجلس العسكري، 22 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، https://urls.fr/FBgu07

24) هل يكرس دستور تشاد الجديد توريث الحكم العسكري العائلي؟، 25 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، https://urls.fr/viXYtd

25) “الوطن أو الموت.. سننتصر” بوركينا فاسو تعيد شعار حقبة سانكارا، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، https://urls.fr/HhCtLv

26) انظر الموضوع:

Guinée: voici l’intégralité de l’avant-projet de la nouvelle constitution, publié le 30 juillet 2024, vu le 07 novembre 2024, https://urls.fr/csEVUn

27) مسودة دستور الغابون الجديد.. كل ما تريد معرفته، 21 يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، https://urls.fr/acXNm1


المصدر: محفوظ ولد السالك، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، رابط النص الأصلي

https://studies.aljazeera.net/ar/article/6081

Admin

القرن الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات: مؤسسة بحثية مستقلة، تأسست عام 2020 تقوم على إعداد البحوث والدراسات والتقديرات وأوراق السياسات، وتنظيم الفعاليات العلمية والأكاديمية وتقديم الاستشارات حول التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية في منطقة القرن الأفريقي، وما يرتبط بها من تفاعلات إقليمية ودولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى