من التحالف إلى الصراع: الأمهرا والحكومة الإثيوبية
يُمثل التمرد المندلع في إقليم أمهرا وجهًا من وجوه العلاقة الملتبسة بين هذه المجموعة ذات التأثير العميق في تكوين إثيوبيا الحديثة وثاني أكبر المجموعات السكانية فيها، وبين السلطات الحاكمة المتعاقبة على البلاد منذ 1991، ويكتسب الصراع في طوره الأخير بين مجموعات فانو الأمهرية والحكومة الفيدرالية أهمية فائقة تتجلى في التركيز الذي حظي به في تقرير تقييم التهديدات السنوي الصادر عن مجتمع الاستخبارات الأميركي في فبراير/شباط 2024؛ حيث اضطرت السلطات الفيدرالية إلى إعلان حالة الطوارئ في الإقليم لستة أشهر في أغسطس/آب 2023 قبل أن تمددها في فبراير/شباط 2024.
تحاول هذه الورقة رصد وتشريح التقلبات التي مرت بها العلاقة بين القوى السياسية الأمهرية والحكومة الإثيوبية في عهد رئيس الوزراء، آبي أحمد، وإلقاء الضوء على النزاع الأمهري-الأورومي باعتباره أحد أضلاع هذه العلاقة، كما تعمل على التعريف الوافي بميليشيات فانو وخطابها السياسي وواقعها الميداني.
1- سرديات مختلفة حول إثيوبيا
برز نجم رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مع وصوله إلى أعلى سدة السلطة في بلاده كمحصلة لحراك ثوري تغييري كانت نواته تحالفًا بين كل من الأورومو والأمهرا حرك الشارع الإثيوبي بين عامي 2016-2018 في مواجهة الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا والتي كانت ائتلافًا من مجموعة من الأحزاب تقوده الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بين عامي 1991-2018.
التحالف بين الأورومو والأمهرا مثَّل مفارقة تاريخية بالنظر إلى الخلاف العميق بين الطرفين الذي صبغ تاريخهما وتاريخ إثيوبيا على العموم؛ حيث مثَّل كل منهما مدرسة مختلفة في فهم وتفسير نشوء إثيوبيا الحديثة.
فالسردية الأورومية لتشكُّل إثيوبيا الحديثة ترى أن جهود الإمبراطور منيليك الثاني، اتصفت بالعنف والضم القهري وقمع ثقافات شعوب الجنوب ولاسيما الأورومو، مشيدةً إمبراطورية قائمة على الفرض وأمهرة الدولة، بدلًا من بنائها على موافقة الأمم والقوميات والشعوب الإثيوبية؛ ما ولَّد شعورًا عميقًا بالظلم التاريخي الممتد والتخوف العميق من أي محاولة للأمهرا للعودة إلى مركز السلطة في البلاد.
على النقيض من ذلك تحتضن السردية القومية الإثيوبية، والأمهرا في قلبها، إثيوبيا التاريخية وتتمسك بفكرة إثيوبيا كدولة قومية، وترى أن التوسع الاستيعابي والإمبريالي المفترض للإمبراطور منيليك وأسلافه في الجنوب هو عملية تاريخية طبيعية متأصلة في بناء الدولة، وأن منيليك لم يغز فعليًّا ويسيطر على أراضٍ “جديدة”، بل فقط أراضٍ “أعاد المطالبة بها” والتي هي جزء من إثيوبيا التاريخية.
وفي هذا السياق، يبدو اختيار آبي أحمد لرئاسة الوزراء وصعوده السريع نوعًا من تسوية مرحلية بين الطرفين اللذين قادا الانتفاضة على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، فمن جهة يمثل أحمد أول رئيس وزراء من أصل أورومي؛ ما يلبي طموحات الأورومو في الوصول إلى سدة السلطة للمرة الأولى في تاريخ إثيوبيا الحديثة، في حين أن طروحاته الوحدوية مثلت عامل تقارب بينه وبين القوى السياسية الأمهرية التي كانت من أبرز داعميه وحلفائه في سنوات حكمه الأولى.
أهمية هذا المدخل تنبع من توضيحه عمق الخلافات بين هاتين المجموعتين وجذريتها في بعض الأحيان، حيث يمكن فهم الصراع الحالي في إقليم أمهرا في أحد جوانبه على أنه تفكك لتحالف “أورومارا” الذي أطاح بالجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، في حين يمثل الاستهداف العرقي الدامي في السنوات الأخيرة بين الأمهرا والأورومو أحد الديناميات المغذية للصراع بين الأمهرا والحكومة المركزية بقيادة آبي أحمد.
2- عوامل خلف التحالف بين آبي أحمد والأمهرا
مثل تحالف “أورومارا” القاعدة الأساسية لمجموعة من التغييرات الكبيرة منذ عام 2018 بالنظر إلى تمثيله لشرائح واسعة من أكبر قوميتين في إثيوبيا، الأورومو والأمهرا، حيث استطاع تخفيف حدة الصراعات بين الطرفين وحشد جمهورهما لتحقيق مجموعة من الأهداف التي يختلط فيها المشترك بين الطرفين والخاص بكل منهما، ويمكن تلخيصها في التالي:
أ- التخلص من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي:
تاريخيًّا، اعتبر الأورومو التيغراي جزءًا من المكون الشمالي الذي همَّشهم وحاول فرض ثقافة معينة عليهم. وفي صيغة الحكم ما بعد 1991، رأى الأورومو في التيغراي قوة حاكمة اعترضت أشواقهم القومية وهمَّشتهم سياسيًّا من خلال الهيمنة التي فرضتها على البلاد.
ولم يكن منسوب العداء لدى الأمهرا أقل؛ حيث يعتبرون أن حكم التيغراي عمل على تشويههم وتحميلهم خطايا كل المراحل الماضية، وجعلهم سببًا للأزمات المزمنة في البلاد، بجانب تهميشهم واضطهادهم والاستيلاء على مناطق يعتبرونها حقًّا تاريخيًّا لهم.
استطاع تحالف “الأورومارا” إزاحة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي من موقعها المهيمن داخل الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، وفي مرحلة لاحقة أعلن مجلس النواب الذي يهيمن عليه الأورومو والأمهرا عدم دستورية وبطلان الانتخابات الإقليمية في إقليم تيغراي، في سبتمبر/أيلول 2020، التي كانت من الممهدات للحرب التي اندلعت بعد أقل من شهرين.
وأخيرًا، كانت الحكومة الفيدرالية بقيادة الأورومو والأمهرا هي التي أطلقت وأدارت “عملية إنفاذ القانون” أو الحرب على تيغراي (2020-2022) التي أدت إلى تحجيم كبير لقوة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.
ب- رفض صيغة الفيدرالية الإثنية لحكم إثيوبيا: وهي نقطة التقاء رئيسية بين الأمهرا ورئيس الوزراء، آبي أحمد، حيث ترى شرائح واسعة من الأمهرا أن احتواء الدستور الموضوع تحت سلطة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على مادة تضمن حق تقرير المصير للقوميات الإثيوبية تعبير عن محاولة من هذه الجبهة لتحقيق حلم بناء دولة قومية للتيغراي وبالتالي تفكيك إثيوبيا.
في حين يرى آبي أحمد والتيار السياسي الذي يمثله أن الفيدرالية العرقية المقرة في نفس الدستور عامل رئيسي خلف تصاعد الخطاب والنزاعات العرقية داخل البلاد، بما يشكل أحد أكبر المهددات التي تواجهها إثيوبيا حاليًّا.
ولذا، فقد كان تأكيد الطرفين على اعتماد نوع من المركزية عقدًا سياسيًّا جديدًا لإثيوبيا أحد الأهداف التي بنت تحالفهما على أساس تعديلات واسعة على فكرة الفيدرالية العرقية، وطرح المشروع السياسي لحزب “الازدهار الإثيوبي” بقيادة أحمد.
ج- رغبة الأمهرا في استعادة السيطرة على مناطق متنازع عليها: وهي ما تُعرف بمنطقة ولقاييت/غربي تيغراي، وتتألف من مقاطعات الحمرة ولقاييت وتسيغيدي في شمال غرب إقليم تيغراي، ورايا جنوبه.
تم وضع هذه المناطق ضمن إقليم تيغراي وفق دستور 1995 القائم على تقسيم الأقاليم وفقًا للإثنية واللغة، ويعتبر القوميون الأمهرا أن قضية غرب تيغراي تمثل ذروة المحاولات للاستيلاء على أراضيهم التاريخية من جهة ومحو هوية سكانها الأمهرا من جهة أخرى.
ومن هنا، تكتسب هذه القضية عمقًا رمزيًّا وعاطفيًّا كبيرًا لدى الأمهرا؛ حيث كانت أحد العوامل خلف انفجار احتجاجاتهم عام 2016، وخلف التحالف مع آبي أحمد في مواجهة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والعمل لمحو إرثها السياسي لاسيما إلغاء نظام “الفيدرالية الإثنية” الذي شرعن دستوريًّا وضعية هذه الأراضي ضمن إقليم تيغراي.
د- حاجة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى تشكيل تحالف وطني واسع: مثَّل التحالف مع الأمهرا ضرورة لرئيس الوزراء الإثيوبي في مواجهة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي؛ حيث إنه يزيل عن مشروع رئيس الوزراء الجديد صفة الأورومية ويوسع من قاعدته الوطنية، كما أنه يحيد أي صراع محتمل مع الأمهرا ويوجه طاقة الجانبين نحو تصفية عدوهما المشترك، وبجانب ما سبق فإنه يمنح الإثيوبيين نوعًا من الشعور بديناميكية تغييرية حقيقية، ترافقت مع موجة التفاؤل الواسعة في مطلع ولايته الأولى، بالنظر إلى العداوة التاريخية بين الأورمو والأمهرا.
3- حرب التيغراي وتعميد التحالف بالدم
مثَّلت حرب التيغراي (2020-2022) ذروة التحالف بين الأمهرا بكل أطيافهم ورئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، حيث شكلت قوات إقليم أمهرا الخاصة والميليشيات المحلية جزءًا رئيسيًّا في الجهد العسكري للحكومة بجانب الدعم الإريتري.
كانت هذه الحرب فرصة مشتركة للطرفين لتحقيق مجموعة أهداف مشتركة يأتي على رأسها تصفية الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي باعتبارها العائق الرئيسي أمام مشروع آبي أحمد السياسي والتغيير الذي ينشد القيام به، ضمن رؤية إقليمية تجسدت في التحالف الثلاثي مع إريتريا والصومال. وعملية السلام مع إريتريا برعاية إقليمية لم تكن بعيدة عن مجريات الحرب؛ حيث كان للإمارات دور بارز في دعم القوة العسكرية الإثيوبية.
بالنسبة للأمهرا، مثَّلت هذه الحرب فرصة لاستعادة منطقة غربي تيغراي التي سارعت قواتهم إلى فرض سيطرتها عليها؛ ما فرض واقعًا جديدًا سيعقِّد الحلول السلمية التفاوضية في مرحلة لاحقة، كما منحت هذه الحرب الفرصة للأمهرا لإضعاف الخصم التيغراوي بشكل كبير، وتوثيق علاقاتهم بإريتريا بما كان لذلك من تأثير مستقبلي؛ حيث دربت أسمرة آلاف المقاتلين الأمهرا، في حين تتوارد التقارير حول روابط بين الطرفين في مواجهة الحكومة الفيدرالية في مرحلة ما بعد الحرب على تيغراي.
4- من التحالف إلى العداء
بقدر ما مثلت حرب التيغراي مرحلة من التنسيق غير المسبوق بين الأمهرا والحكومة الفيدرالية فإنها كانت بنفس القدر بداية لصدع بين الطرفين، ما لبث أن توسع ليصل إلى مواجهات عنيفة مستمرة منذ صيف 2023 بين ميليشيات الفانو الأمهرية المسلحة والقوات الحكومية، ويمكن رد هذا التحول إلى مجموعة من العوامل، من أهمها:
أ- التخلص من العدو المشترك: كان التحالف بين الأمهرا ورئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، قائمًا على أرضية من العداء المشترك للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وبالتالي فإن الضربة القاصمة التي تعرضت لها وإزاحتها بقدر كبير عن مسرح الفاعلية والتأثير السياسي أعاد التناقضات بين الطرفين إلى البروز من جديد.
ب- تنامي دور التيار القومي الأمهري: شهدت السنوات الأخيرة صعودًا متناميًا لقوى أمهرية قومية متطرفة من أبرزها الحركة الوطنية للأمهرا (NAMA) التي تم تأسيسها عام 2018 بهدف صد “التهديد الوجودي الذي واجهته الأمهرا”.
ويمكن إرجاع هذا البروز للقومية الأمهرية إلى عدة عوامل من أهمها تأثير السردية الخاصة بالفيدرالية العرقية التي تؤسس لوصم الأمهرا بالشوفينية والظلم التاريخي، والهجمات المتكررة على أساس عرقي على الأمهرا الذين يعيشون في مناطق مختلفة من البلاد، والسجل الكئيب للمنطقة من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بجانب التغيير البطيء للغاية في قيادة الحزب الإقليمي الرئيسي ما جعله بعيدًا عن التركيبة النفسية للمجتمع، في حين تمثل قضية ولقاييت عامل حشد مهمًّا خلف التوجه القومي للأمهرا.
من خلال التركيز على هذه القضايا التي تعبِّر عن المظالم المتصورة لدى الأمهرا استطاع هذا الخطاب أن يكتسب شعبية واسعة وأن يصبغ المزاج العام الأمهري ساحبًا البساط من تحت أطراف سياسية أخرى، ومصعِّدًا التوتر مع الحكومة الإثيوبية التي يتهمها بغض الطرف عن هجمات مسلحي الأورومو على الأمهرا والفشل في الوقوف في وجه مطالبات الأورومو في أديس أبابا، حيث يوجد عدد كبير من السكان الأمهرا.
ج- الخلاف على قرارات متعلقة بالحرب في تيغراي واتفاق بريتوريا: كان لبعض القرارات التي تم اتخاذها أثناء الحرب في تيغراي تداعيات سلبية على التحالف بين الأمهرا والحكومة الفيدرالية، ويمثل قرار الانسحاب من الإقليم، صيف عام 2021، دون التشاور مع القوات الحليفة سواء كانت الإريترية أو التابعة لإقليم أمهرا أو الميليشيات الأمهرية، بداية لتشكل حالة من عدم الثقة في أوساط الطرف الأخير تجاه القرارات التي تقدم الحكومة على اتخاذها.
في حين يبدو اتفاق بريتوريا مفترق طريق حقيقيًّا بين الحكومة والقوميين الأمهرا، الذين يعتبرون أنه تم استبعادهم من المشاركة في المفاوضات، وأنه لم تتم استشارتهم كقوى حليفة منخرطة في الحرب في بنود اتفاقية وقف العدائيات قبل إقرارها.
وتبرز في هذا السياق قضية تبعية المناطق المتنازع عليها حيث كان الرفض المطلق للتنازل عن السيطرة عليها أحد أسباب مطالبة القوميين الأمهرا بتمثيل منفصل لهم في مفاوضات بريتوريا، وبما أن نص الاتفاقية على معالجة القضايا المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها وفقًا للدستور الإثيوبي يعني بالضرورة تبعية المناطق لتيغراي، فقد اعتبر النائب في البرلمان الإثيوبي عن حزب الحركة القومية للأمهرا، ديسالين داغنو، أن تبعيتها لإقليم أمهرا “خط أحمر” وأن أي ترتيب لا يعترف بذلك سيؤدي إلى حالة من انعدام السلام الدائم في المنطقة.
5- الصدام المسلح وبروز ميليشيات فانو في المشهد الإثيوبي
أ- علاقة مرتبكة مع أديس أبابا
وسط هذه الحالة من التوتر وعدم الثقة تزايد دور ميليشيات فانو في إقليم أمهرا، لتصبح أبرز الفاعلين المسلحين في الإقليم، وهي تتكون من مجموعة من الميليشيات غير المؤطرة ضمن جسم مركزي، واتسم ظهورها في البداية بطابع سلمي حيث مثَّلت نظيرًا شبابيًّا لحركة “قيرو” الأورومية التي قادت الحراك الشعبي المناهض لحكم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية (EPRDF).
لاحقًا، بدأ الجانب العنيف لفانو بالبروز مع توسع قاعدتها الشعبية بشكل كبير، وشكلت حرب التيغراي منعطفًا حاسمًا في مسيرتها ودورها، حيث شاركت بفعالية في مواجهة قوات التيغراي ما أكسب نشاطاتها نوعًا من الغطاء الشرعي، كما وُجِّه لها العديد من الاتهامات بالقيام بانتهاكات واسعة.
أتاحت الحرب لفانو الفرصة الذهبية لبناء المعسكرات، وتجنيد وتدريب المقاتلين، والاستفادة من الشبكات اللوجستية والأمنية والإدارية للحكومة، وهذا بدوره مكنها من توسيع شبكاتها المجتمعية، وجذب أعضاء جدد، وتعزيز قدراتهم العسكرية، واكتساب خبرات قتالية ميدانية كبيرة.
قدرة فانو على بسط سيطرتها على مناطق ولقاييت/غربي تيغراي ودورها الفعال في كبح اندفاع قوات دفاع تيغراي إلى داخل إقليم أمهرا، صيف 2022، منحاها تأييدًا شعبيًّا واسعًا كقوة حامية للأمهرا في مقابل الادعاءات حول تخاذل حكومي أتاح للقوات المعادية التوغل إلى عمق الإقليم.
بدأ الصدام بين فانو والحكومة المركزية في صيف عام 2022 مع مطالبة سلطات إقليم أمهرا لعناصر فانو بالتسجيل ضمن “بنية قوات الأمن الحكومية”، ومطالبة السكان بتسجيل الأسلحة النارية متوعدة المخالفين بالمساءلة القانونية، ما أدى إلى اشتباكات مسلحة مع العناصر الرافضين واعتقال ما يزيد على 4500 مشتبه به؛ حيث كانت أديس أبابا غير مطمئنة لوجود هذه القوة المسلحة الخارجة عن سيطرتها، والتي تتمتع بعلاقات مباشرة بإريتريا.
اشتعال المعارك مع التيغراي مجددًا دفع الطرفين إلى العودة إلى التحالف، لينفجر الصراع الأعنف بينهما ربيع العام التالي مع السخط الذي قوبل به قرار الحكومة الفيدرالية، في أبريل/نيسان 2023، بتسريح القوات الخاصة لإقليم أمهرا ضمن حملة شملت البلاد بأجمعها؛ حيث شعر الأمهرا أن تسريح هذه القوات سيتركهم دون حماية بعد تجربتهم المريرة في حرب التيغراي.
وفي ظل هذه الأجواء لجأ الآلاف من أفراد القوات الخاصة إلى الأدغال للانضمام إلى فانو مضيفين إلى هذه الميليشيات زخمًا بشريًّا وعملياتيًّا، ظهرت نتيجته سريعًا مع بلوغ التمرد إحدى ذراه العنيفة صيف عام 2023 على إثر تداعيات هذه الخطوة.
ب- الخطاب السياسي والواقع العملياتي لفانو
رغم تركيز خطاب مجموعات فانو على نقاط أساسية كالمظالم التي يتعرض لها الأمهرا، واتهام الحكومة باستهدافهم والانحياز إلى الأورومو، وتقديم نفسها على أنها الحامي لقضية الأمهرا، فإن من الصعوبة بمكان إدراجها ضمن أيدلوجية سياسية واحدة حيث تتباين الرؤى حول العديد من القضايا.
وضمن هذا الإطار يذهب أكثر العناصر تطرفًا إلى تبني خطاب قومي منغلق يحشد أبناء الأمهرا للالتفاف حول المصالح العرقية الضيقة لقوميتهم والتحذير من الهيمنة الوشيكة للأورومو الذين ينتمي إليهم رئيس الوزراء، آبي أحمد، في حين تدعو أطراف أخرى إلى بناء هوية إثيوبية أوسع من خلال تجاوز نظام الفيدرالية العرقية كما طبقته الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي واعتباره الجذر الأساسي للانقسام العرقي العميق الذي تعانيه البلاد.
عملياتيًّا، تشمل الفانو طيفًا واسعًا من المجموعات، وأغلبها صغيرة وتعمل بشكل مستقل، حيث يتسم نشاط هذه المجموعات بعدم المركزية، والتجزؤ، والتنظيم الممتد من القاعدة إلى القمة، والافتقار إلى هيكل تنظيمي رسمي يوحد المجموعات في الأجزاء المختلفة من منطقة أمهرا، حيث ينشط الفانو بشكل أكبر في شوا، وغوندر، وغوجام، وولو.
من أهم هذه المجموعات “الجبهة الشعبية للأمهرا” التي أنشأها المعارض الأمهري البارز ورئيس حزب “بالديراس من أجل الديمقراطية الحقيقية”، إسكندر نيغا، وتنشط الجبهة بشكل رئيسي في منطقة غوندر، وتحظى بدعم من الشتات الأمهري ذي الموارد الجيدة، ويبدو أنها توسع نفوذها في جميع أنحاء المنطقة، مما يعزز روابطها مع قادة الفانو والمجتمعات التي يعملون فيها.
كما تعد “القوة الشعبية للأمهرا” من أبرز القوى الأمهرية ويقودها زيميني كاسي، وقد اكتسبت سمعتها كقوة مدافعة عن شعب الأمهرا من الهجمات العرقية التي يتعرض لها في أجزاء مختلفة من البلاد، حتى يُلقب كاسي من قبل بعض أنصاره بأنه “بطل قضية الدفاع عن الأمهرا”، ومع تصاعد الاشتباكات مع القوات الحكومية تمكنت هذه القوة مع حلفائها من السيطرة لفترة وجيزة على بحر دار، العاصمة الإقليمية.
وتمثل “فانو شرق أمهرا” أكبر مجموعات فانو المسلحة في منطقة ولو ويقودها مهرت وداجو (أو ميرت وداجو)، وقد أسهمت بفاعلية إلى جانب الجيش الإثيوبي في الحرب مع قوات دفاع تيغراي، لاسيما على “جبهة رايا”.
تسببت الخلافات السياسية بين مجموعات فانو في عدم وجود جبهة موحدة واضحة، لكنها أسهمت في النجاح الأولي لهذه الميليشيات في السيطرة على أجزاء كثيرة من منطقة أمهرا، كما أن عدم المركزية هذا منح فانو مرونة في مواجهة اعتقالات الحكومة للعديد من رموزها.
غير أن افتقار هذه المجموعات إلى الوحدة أعاق جهودها لتوسيع مناطق نفوذها وللتنافس سياسيًّا مع الحكومة سواء داخل إثيوبيا أو بين مواطني أمهرا في الشتات؛ حيث برزت بعض المحاولات لتوحيد جهود مجموعات فانو تحت مظلات جامعة على مستوى مناطقي، في حين يبدو أن التباينات السياسية ستظل عائقًا رئيسيًّا أمام توحيدها بشكل كامل.
خلاصة
تلخص العلاقة المتأزمة بين شرائح من الأمهرا والحكومة الإثيوبية مصفوفة الأزمات التي تعاني منها إثيوبيا، والتي تتداخل فيها القضايا المرتبطة بالهوية والصراع العرقي وتفسير التاريخ والنزاع على الأرض وعلى السبيل الأمثل لحكم بلد يزخر بتنوع عرقي كبير.
وضمن هذا الإطار يمثل تمرد فانو أحد أهم المهددات الأمنية التي تواجه إثيوبيا، وتزداد خطورته بالنظر إلى بروزه في سياق تتصاعد فيه الأزمات المحيطة بالحكومة الإثيوبية التي تعاني داخليًّا من أزمة اقتصادية، ومن تمرد عنيف في إقليم أورومو، وبينما يلقي العديد من علامات الاستفهام بظلاله على مستقبل تطبيق اتفاقية السلام مع التيغراي، يظل التوتر مع الجوار الإقليمي مرشحًا للتصعيد على خلفية مطالبة إثيوبيا بمنفذ بحري.
في حين يتمثل أحد التداعيات القاتمة لهذا التمرد في تأجيجه للعداء القومي مع الأورومو؛ ما ينذر بتحول المنازعات بين الطرفين إلى اضطرابات أوسع قد تصل في حدها الأقصى إلى تفكك الحزب الحاكم وانقسام حاد في الجيش ومؤسسات الدولة على أساس عرقي بين الأورومو والأمهرا.
كما أن الطبيعة المعقدة للواقع الإثيوبي تجعل من الصعب على الحكومة تقديم تنازل لأحد الأطراف دون أن يثير ذلك غضب طرف آخر، فعلى سبيل المثال منح الأمهرا السيطرة على ولقاييت/غربي تيغراي سيؤدي إلى انهيار السلام مع التيغراي، والعكس كذلك، في حين أن الاستجابة لمطالب الأمهرا فيما يخص أديس أبابا ستقود إلى تأجيج غضب الأورومو وتصاعد التمرد الأورومي المسلح، والعكس كذلك.
النص الأصلي: عبد القادر محمد علي، من التحالف إلى الصراع: الأمهرا والحكومة الإثيوبية، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر 8 مايو 2024، الرابط: https://studies.aljazeera.net/ar/article/5919